اخر الاخبار:
اخبار المديرية العامة للدراسة السريانية - الأربعاء, 24 نيسان/أبريل 2024 18:10
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

إذا ما الأمُّ سُئِلَتْ ...!!!// د. سمير محمد أيوب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. سمير محمد أيوب

 

عرض صفحة الكاتب 

إذا ما الأمُّ سُئِلَتْ ...!!!

د. سمير محمد أيوب

الاردن

 

النافذة العاشرة - على بعض ما قد مضى من العمر.

بعد أن عُدْنا عصراً، فرِحينَ برفقة أمي من مستشفى الزرقاء الحكومي، معافاةً مِمّا كان قد ألَمَّ بِرئتَيْها قبل ربع قرن من الزمن، جلَسنا في حضرتها في بيتها بالغويرية، وأبي مُصرٌّ على توزيع الكنافة بنفسه على الحضور، سألْتُها وهو يُناوِلُها صحنَ الكنافة المُنَغْنَغِ بالقطر كما كانت تحبّه: يَمَّه وقد تجاوزت الثمانين من عمرك المديد إن شاء الله، لو عاد بك الزمن، هل كنتِ ستعيشين مع أبانا، زوجك وابن عمّك، حياتَكما بنفس الطريقة؟ ونفس الإختيارات؟

 

إبتسمت عيناها الصغيرتان، قبل أن تلتفتَ إليه وقد جلس على يسارها. تشابكت أصابع يدها اليسرى بأصابع يده اليمنى. وأمعنت النظر في ملامحه، وكأنها تراه لأوّل مرّة. وأجابت بدموعها، وشفاهها الموشومة المرتجفه: بالتأكيد أنا خيرية موسى أيوب، غير نادمة على أي لحظة عشتها مع أبيكم، طيلة اكثر من ستين عاما، ولا على أيّ شيء توافقنا عليه في مسيرة حياتنا المشتركة.

 

صمتَتْ قليلا. أجالَت بصرَها في الحضور، أخواتي نهلة وسميرة، وإخوتي سامي وسهيل وأنا، وأولادنا العشرين، وزوجاتهم وأزواجهن وأحفادنا العشرة. تفرَّسَت في وجوه الجميع، قبل أن تقول مع شيء من صرامَتِها المُحبّبة، وهي تحيط كتفه الأيمن بيسارها وكتفيَ ألايسر بيمينها:

 

أبوكم هذا، ابو سمير محمد الملقب بحرب، من زينة الأيّوبيّين حيثما حل، في حيفا حيث ولد، وفي شويكه حيث عاش، وفي الكويت حيث عمل، وفي الاردن حيث تقاعد. إنّه رجلٌ طيّبٌ شهمٌ قنوعٌ راضٍ ومرح، وطنيٌّ شجاع. بذل كلَّ جهده مُجاهدا معي، لنربيكم لتكونوا أكثر لياقةً بالحياة وتحدياتها.

 

ثم صمتت قليلا، طأطأت رأسها ثم رفعته عاليا الى سقف المجلس، وعاودت النظر الينا وهي تقول: ولكن، لو عادت بي الحياة مرة أخرى، لن أقضيها شاكية مِنْ أُمِّيَّةِ الحَرْفِ ومتاعبها. كنتُ سأنتبه أكثر إلى أنَّ القراءة والكتابة كالحبِّ المُعجِزة، رزقٌ منَ الله. وكنتُ سأسْتمتع بكلِّ قدرٍ قد أتحصّله من هذا الرزق. فهو أداة كانت ستمكّنني من إتقان توجيهكم في دروب الحياة ودهاليزها.

 

قلتُ بعد أن صمتَت وتنهَّدت بعمقٍ، وأنا بأصابعي أُنَكْوِشُ لها شعرها المُكَزْبِر: ثم ماذا يا حجّه؟

 

قالت وهي تحتضن خدِّيَ براحة يدها: الصرامةُ الزائدةُ يا سمير، قلَّلَتْ منْ استمتاعي بطفولتكم وصباكم وبواكير شبابكم. فقد كنتُ أظنُّ أنّ التدليلَ الزائد مفسدة. لو عاد بي الزمن يا ولدي، بالتاكيد سأخفّف من جرعاتها، وصرامة مضامينها، وتنوع تطبيقاتها. فسامحوني وإن تأخرت. كنتُ سأشجّعَكم أكثر على دعوة أصدقائكم إلى بيتِنا رغمَ تواضعه. لتَسرحوا وتَمرحوا وتَستَمتِعوا أكثر، ببراءة طفولتكم ولهوها، ومشاغبات صباكم، وأحلام شبابكم المُجنِّح، ولكن بلا شطط وتحت إشرافي المباشر أيضا.

 

وقفت نهلة أكبر أخواتي احتراما، وابتسامتها الطيبة النبيلة تسأل: ثم ماذا يَمَّه؟ زِيدينا ربي يبارك بعمرك.

 

قالت الحجة وقد تهللت أساريرها وهي تشير إلى نهلة لتجلس: كنتُ والله، سأنْصِتُ أكثر لكم وأنا برفقتكم، لحكاوى جدّكم أبو حرب يرحمه الله، وخراريف الحاجه فاطمه أم عدنان عمّتكم، إبنة عمي وبديلتي وزوجة أخي الحج عطيه يرحمه الله. لأضيء لكم ما في تلك الحكاوى من دروس وحكم وعبر، شموعا هادية مرحة، إن فَسَدتِ القُدُواتُ مِنْ حَولِكم.

 

وها أنا أراكم أمامي الآن، كنتُ سأكون أكثر واقعية في متابعتكم عن قرب وعن بعد. كنتُ سأقلّل دموعي وخوفي عليكم في مرضكم ،وأن أحاصِرَ أوهامي في اغترابكم، وحواديثِ إخفاقاتكم. وكنت سأستزيد من جرعات الفرح الحي وأعيشها معكم، كما كان يليق بانجازاتكم ونجاحاتكم. أعتذر لكم لأنه كان عليّ أن أعلن لكم مشاعري الحزينة وقلقي ، وموجاتَ فرحي ونسائمه.

 

فجأة وقف أحفادها. أحاطوا بها بفرح عارم، وكبيرهم يسأل: يا جدتنا لو أكرمك الله سبحانه، بفرصة ثانية للبدء من جديد....

 

قاطعته وقد ألقى بنفسه في حِضنها، ضمّته وقبّلته وهي تقول: كي لا يضيع شيئا من عمري، أو من أعماركم هباءً، سأراكم فردا فردا، وعي يتسع لكم كعزوة تشد أزري، سأنصت لكم أكثر. سأحيا تفاصيلكم بعمق. سأجرب شغفكم بالحياة عن قرب. وسألامس في كل لحظة أولوياتَ أحلامكم. وسنَسرِجُ جدُّكُم وأنا كلَّ قناديلينا، لتكونوا نجوما في هذا الليل العربي المزدحم بالعَتْم

 

حملها الأولاد والأحفاد وهم دامعون يرتّلون: سِتّي يا خِتياره، يا زينِة كلّ الحاره، لا نملك إلا أن نُحبُّك أو نُحبُّك أو نُحبّك. أطال الله في عمركما وجزاكما كلّ خير.

 

رحم الله أمي وأبي، وكل من رحل من الأمهات والآباء، وأسأله شفاءً لكل مريض منهم, وأن يطيل في أعمار من ما زالت أحضانهم مثاباتٍ دافئة، نأوي اليها كلما قست الحياة علينا. نستظل بفيض حنانها، وننهل من ينابيعها، كرمَ الطمأنينة والمودة والرحمة.

 

الاردن – 3/6/2020

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.