اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

• مُحاولة في دراسة لغة الحيوان ومُناجاته ( الجزء الأول )

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 د. هاشم عبود الموسوي

مقالات اخرى للكاتب

 

 مُحاولة في دراسة لغة الحيوان ومُناجاته

( الجزء الأول )

 

      لقد شغفت منذ طفولتي ، بأصوات الطيور والعصافير المُغرّدة ، عندما توفي والدي بوقت مُبكّر وسكنت مع والدتي وإخوتي في بيت جَدي المُحاط بالبساتين والذي تتوسطهُ حديقة كبيرة ، كانت تؤمها الطيور كل يوم ، والتي لم يبق منها سوى شجرة توت تقاوم عوداي الزمن بعد إنتقالنا إلى بيت مُستقل.

      لقد ساورتني رغبة عميقة في سني طفولتي أنسنة هذه الطيور وسماع حواراتها وإمكانية التحدث إليها ... وكم كنت أتلذذ في ليالي الشتاء الطويلة بتلك القصص الخيالية التي كانت ترويها لنا إحدى زوجات جدي (الأربع) عن الرجال الذين يبحثون ويجدون بعد عناء عرائس البحر الجميلات ، نصفهن إمرأة ، ونصفهن سمكة ، وهن يقفزن من تحت الماء ويناجين الرجال الحالمين ، فيبتسم القمر لهذه المُناجاة ويباركهم مُرسلاً خيوطه الفضية على صفحة الماء.

      وبعد أن توسعت مَداركي ، واطلعتُ على مناهل مُتنوعة للأدب العالمي ، عرفتُ أنَّ فكرة تحدث الحيوانات قديمة ومنتشرة بين المُجتمعات ، كاللغة نفسها ، ولا توجد ثقافة تخلو من أساطير تتحدث عن كلام الحيوانات وأحاديثها . ففي غرب أفريقيا يستمتع الأطفال في الحكايات الشعبية عن قصة بطلها الرجل العنكبوت ، فيما يُعتبر "القيوط" * الشخصية المُفضلة في العديد من حكايات هنود أمريكا ، ونادراً ما لا تظهر بعض الحيوانات في حكايات الحيوان المشهورة لآيسوب.

      لقد استخدم العديد من المُبدعين هذه الفكرة بنجاح ومن بينهم "هيولوفتينك" (Hughlofting) مؤلف العمل الأدبي المشهور "دوليتل" (DoLittle) والميّزة الجيدة التي تفوق بها على أقرانه هي وسائل الإتصالات بين الحيوانات ولا تزال تلك المغامرات محبوبة للأطفال.

      وعندما بدأتُ في مراحل لاحقة من عمري ، أتذوق الشعر والكتابات الأدبية ، وجدتُ في شعرنا القديم بُعداً فنياً وإنسانياً رائعاً لظاهرة تتمثل في كثرة لجوء الشاعر القديم الى حوار الحيوان مُشخصاً إياه ، كما لو كان رفيقاً للشاعر ، يستطيع أن يبادلهُ أحاسيسه ويفهم آلامه ويشاطرهُ مشاعره. ولستُ أقصد بحوار الحيوان هنا ذلك اللون الذي نجدهُ مثلاً في  "كليلة ودمنة" وقصص لامارتين وحكايات شوقي ، فذلك ضرب من الحوار الفلسفي الرمزي يحاول الشاعر من خلاله إسقاط رؤاه الفكرية والسياسية والإجتماعية. لكنني أعني ذلك اللون من الحوار العاطفي الذي يجعل الشاعر يتلفت الى حصانه أو ناقته ويناجيها كما لو كان يُناجي رفيقاً أو صديقاً أو حبيباً ، وهذا اللون في شعرنا العربي جدير منا بوقفات مُطولّة لما فيه من دفئ وحب وتوّحد بين الإنسان والحيوان عندما يقفان معاً في مواجهة تلك الصحاري الشاسعة بصخورها وكثبانها الضاربة في أعماق اللانهاية. ولا شك أن حياة الترحال واعتماد العربي على الإبل والخيول في رحلاته عبر فيافي الجزيرة قد عمّقت هذا الجانب في شعرنا العربي وأعطتهُ مَذاقاً خاصاً لا أحسبه في نفس عمقه ووهجه في آداب الأمم الأخرى ذات الطابع المُستقر ، ولعل ذلك يُفسّر بلوغ هذا الشكل الفني أوجَه في الشعر الجاهلي ، ثم إضمحلاله العباسي وفي الأندلس.

      ثم وجدتُ أنني كلما تعمقتُ في دراسة الكائنات ، إزداد شغفي ، وتفتح عقلي ، ونضجت مداركي ، ولأقف مذهولاً أمام أسرار عميقة عمق البحار ، إذ أصبحتُ كلما أكتشف سراً ، قادني ذلك إلى أسرار أعمق وأغرب .. خاصةً بعد قيامي بتربية بعض الحيوانات المُدللة (Petes) من كلاب الزينة ، والقطط الأليفة ، والتي كانت تستجيب الى بعض الإيعازات والطلبات التي يطلبها منهم أفراد أسرتي ، وطيور الزينة والفنجر والكناري والمينه وحتى أسماك الأحواض الداخلية .. وشيئاً فشيئاً ، أصبحتُ أدرك بأن دراسة هذه الكائنات ولغاتها ، ليس لها حدود أو قرار.

      ثم بدأت أفسر الأمور على النحو التالي: لاشك وان الناس يكونون أمماً ولهم لغاتهم ولهجاتهم وسلوكهم وعاداتهم ، واللغات منطوقة أو مكتوبة أو مقروءة ولها مفرداتها وقواميسها الى آخر هذه الأمور التي نعرفها تمام المعرفة.

      ثم بدأتُ أطلع على ما قام به مجموعة كبيرة من العلماء التجريبيين الذين ذهبوا إلى أبعد من ذلك بكثير، وبدأوا يعيشون مع أقوام وأمم أخرى تتحدث لغات غير لغاتنا ، ولكل قوم لغتهم ، ومع أن هذه اللغات تنتشر حولنا في كل آن وحين ، إلا أننا لا نستطيع استيعابها ، ولسبب بسيط ذلك أن تلك اللغات غير مكتوبة ولا منطوقة ولا مقروءة ، ومع ذلك فلها مفرداتها التي لو جمعت وكتبت ، لما وسعتها مجلدات من فوق مجلدات ، أو قواميس تلو قواميس وعندئذ ستبدو قواميس البشر شيئاً مُتواضعاً من حيث الكم والنوع ، وكأننا لسنا وحدنا في الكون ، نعود لنقول ،  ان جيشاً مُتكاملاً من العلماء قد وقع على كنز ثمين من لغات تعمل في الخفاء ، وبدأ في ترجمة مُفرداتها ، وبهذه المعرفة ، يمكن التوجيه والسيطرة ، وكأنما هؤلاء العلماء قد أصبحوا بمثابة " سليمان" العصر والأوان رغم أننا لم نعرف كيف كان يعرف الملك سليمان لغة النمل والطير والحيوان ، لكن "سليمانات" هذا العالم الصامت قد قدموا لنا قاموس مفردات فيه شروط تتحكم في هذا العالم الصامت الأخرس ، وتنظم مُجتمعاتهِ ، وتسيطر على سلوكه وبماذا ؟ بما قلّ ودل "وخير الكلام ما قلّ ودل" "ولكن أكثر الناس لا يعلمون".

      لقد تعرّض صديق لي وهو فتى غر ، لحادثة لن ينساها مدى العمر ، فبينما كان يقف بجوار خلية نحل ، ليتطلع إليها ، ويحكم لها أو عليها ، لدغته نحلة ، فلطمها بيده لطمة ، وبينما كان يستعد للإنصراف ، فوجئ بنحلة من وراء نحلة ، وقد هجمت عليه لِتُحدث فيه لدغة وراء لدغة وصاح صارخاً ومُستنجداً : النجدة ، النجدة ثم أطلق ساقيه للريح ، والنحل من وراءه هائجاً ومائجاً ، مما اضطره لغلق الأبواب ، وظل يومين طريح الفراش ، وهو يجتر آلامه ، ويعزم الأمر على ألا يعود إلى خلية نحل أبداً.

      ولقد ظلت هذه الحادثة تشغل البال وتثير السؤال : لماذا هجم عليه النحل بمثل هذه الضراوة، ولم يكن يضمر له شراً؟

      ولم يهتد إلى جواب مُقنع إلا بعد أن كبر ودرس تخصص في علوم الحياة عامة ، وعرف أن لكل شيء في الكون والحياة لغة خاصّة ، وكان من سر تقدم العلوم معرفة مُفردات هذه اللغة على مستوى الموجة والجسيم والذرّة والجزيء والخلية والكائن الحي ... الخ

      في يوم أن صرخ طالباً النجدة من قومه سبقته النحلة أيضاً بطلب النجدة من قومها ، فأجابوها أسرع مما أجابه قومه ، لم تصرخ النحلة كما صرخ ولا نادت كما نادى ، بل أرسلت رسالة سريعة ومُقتضبة حملها الهواء في التو واللحظة ، وتفهمها النحل الذي يحلق كحرس شديد حول الخلية ، ففعل ما فعل. إن مُفردات الرسالة التي تطلب النجدة  قد حل جزءاً من شفرتها أي أن شفرة رسالة طلب النجدة عند النحل عبارة عن "جملة" مركبة ومُختصرة تُعرف كيميائياً بأربعة مُركبات محدودة وهي " لمن يهمه الأمر" من أملاح حامضين اسمهما "بروبيونيك" ، "وويتيريك" وخلات كحول اسمه "ايزو ايمايل" ومركب "اسيتوني يعرف بأسم 2 هبتانون" وطبيعي ان هذه اللغة قد لا تعني بالنسبة لنا شيئاً مذكوراً لكنها تخرج من النحلة عند اللدغة وتستقبلها – عن طريق الهواء- كل نحلة اخرى قريبة من المجال ، ولو استطاعت النحلة أن تتحدث ، فربما يجيء حديثها كهذا: هناك عدو ، وقد هوجم ولدغ ، فإلى الحرب يارفاق ، وفي التو واللحظة تنطلق كل نحلة نحو الهدف بما استقبلت على قرني استشعارها ، وكأنما هي سهام سامّة موجهة بدقة بالغة ، فمن حيث تصلها المواد المنذرة مع النسمات التي تهب نحوها ، وتنطلق الى الضحية التي تقترب من مستعمراتها سواء كان إنساناً أو حيواناً ، وذلك إن بعض الحيوانات تستطعم عسلها كما يستطعمه الإنسان ، ولقد ظهر النحل والحيوان قبل أن يوجد الإنسان على هذا الكوكب بعشرات الملايين من الأعوام ، ولا بدّ للنحل من لغة يتفاهم بها ، ويعرف العدو من الصديق ، ولا بد أيضاً من سلاح يُدافع به عن الأوطان. هذه إذاً بضع مواد كيميائية قد كوّنت في حياة نوع من النحل كلمة مركبّة ومُفيدة ، والعلماء الذين يفكّون شفرتها ، ويعرفون تكوين جزيئاتها ، بل أحياناً يقومون بتخليق هذه الجزيئات ثم تجربتها على النحل ، ليعرفوا إن كانوا قد أصابو أو أخطأوا ، كل هذا وغيره يشير إلينا من طرف خفي ، إن علماء هذا الزمان قد بدأوا في ترجمة جديدة لمفردات لغة صعبة ، ربما أصعب من فك لغة حجر رشيد الذي عرفنا من خلاله سر لغة الفراعنة.

      ولا شك أن مفردات قاموس تلك الكائنات كثيرة جداً لدرجة أن واحد من العلماء قد قدّر عدد هذه المُفردات في الحشرات فقط بأكثر من مليون مركّب كيميائي ، والكائنات الأخرى فلها أيضاً لغتها الكيميائية التي تستخدمها في أغراض شتى ، وهذا يعني أننا لو كتبناها بلغتنا فلن تكفيها قواميس من فوق قواميس من الحجم الكبير.

      وعندما تصبح حصيلة المعلومات كبيرة ، فإن الإنسان يحتار فأيها يترك وأيها يختار ولكن التركيز على بضعة مُركبات اتخذتها الأنواع المُختلفة من الكائنات لترجمتها في حياتها وتصبح لها بمثابة كلمات تعني الإنذار ، والشغب ، وما شابه ذلك ، ذلك أن لكل نوع منها "لهجته" التي لا يدركها نوع آخر سواه ... فكلمة مثل " الخطر" في لغتنا ، لا يفهما إلا الناطقون بالضاد لكن إن تنطلق هذه الكلمة أمام فرنسي أو إنجليزي ، أو كل من ينطق ولا يتكلم لغتنا ، فلا شك إنه لن يُدرك ماذا نقصد ، فله مُفردات لغته ، كما لنا مفردات لغتنا ، وكذلك تكون الأنواع المُختلفة من الكائنات عدا أنها تُخاطب بعضها مع بعض بلغة الكيميائية وتفهمها بسهولة ، حيث لا نستطيع نحن ذلك اللهم إلا إذا تعلمنا إصول هذه اللغة السريّة.

( للحديث صلة )

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.