اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

• عوالم هوميروس ومظفر النواب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د.هاشم عبود الموسوي

 مقالات اخرى للكاتب

عوالم هوميروس ومظفر النواب

 

قد يبدو العنوان غريباً نوعاً ما .. ولكن ثمة مُقاربات ومُصادفات تجمع بين الإثنين رغم التباعد الزماني والمكاني بين شخصيتين إحداهما عاشت قبل بداية التاريخ ، والأخرى عاشت معنا في عصرنا الحالي .. ورغم أن الأولى وهي شخصية هوميروس التي عاشت في زمن تندر به الكتابة والتوثيق مما دعى إلى وجود كثير من الغموض حولها .. وأما الثانية فهي شخصية المُبدع الكبير مظفر النواب الذي بزغ نجمه في الخمسينات من القرن الماضي وظل يتصاعد في مُنتجاته الإبداعية ، وتاريخه النضالي ، وعندما أصبح إسمه يمثل رمزاً وطنياً وإبداعياً ، كان ذلك لابد أن يثير لدى بعض حُساده ومُعاديه حملة من التوهيم والتشويه حول نسبه ومَنشأهُ وأشياءاً أخرى .. وسأحاول أن أستعرض بعضاً من معالم الشخصيتين ، لأتلمس المُقاربة الحادثة في تاريخهما ونتاجاتهما الإبداعية. فهوميروس هو صاحب الملحمتين الأوديسة والإلياذة ، ومظفر النواب هو صاحب الريل وحمد والإبداعات الكثيرة التي عرفها العراقيون والعرب .

 

لأبدأ بعرض مُختصر عن الأول منهما : لقد وضع اليونانيون هوميروس صاحب الأوديسة والإلياذة على رأس شعرائهم ، رغم الخلاف والغموض الذي أحاط بأكثر من جانب من جوانب شعره ومنشأه ونسبه وحتى إسمه الحقيقي ، فيذكر لنا أحد الكتّاب بأن هنالك ثلاثة أسماء أعطتها الروايات المُختلفة لهوميروس غير اسمه الذي نعرفه به ، كما يحدثنا عن إختلاف مماثل حول أصل الشاعر ، وهو إختلاف يبدو أنه كان كبيراً فعلاً حيث نجد سبع روايات كل منها تنسب هوميروس إلى أب مُختلف ، وسبع روايات أخرى تنسب الشاعر الى سبع أمهات مُختلفة ، وهو ما يُقال عن الإصل الذي إنحدر منه هوميروس ، يصدق كذلك عن المكان الذي شهده مولدهُ ونشأتهً ، حيث يذكر لنا الكاتب أنه "ما من مدينة إلاّ ونسبته إليها وأدعى أهلها إنه من بين ظهرانيهم" .

 

          هذا وليس أصل الشاعر ونشأته هما اللذان يحيط بهما الغموض فحسب ، بل يمتد هذا الغموض ليلف جوانب أخرى من القضية ، فهل هناك شاعر واحد نظم الملحمتين أم أن هناك أكثر من شاعر ، لقد كان اليونانيين أنفسهم قاطعين في هذا الموضوع ، فآعتقادهم لا يرقى إليه الشك في أنَّ الإلياذة والأوديسة قد نظمهما هوميروس . ولكن الأمر لم يكن بهذه السهولة عند نُقّاد العصر الحديث ، فقد كان القرن التاسع عشر مسرحاً لرأيين مُتناقضين ، أحدهما يؤيد ما آمن به اليونانيون ، والآخر يرى أن الملحمتين  لا يمكن أن يكونا من نظم شخص واحد . وليس من  بين أهداف هذه المُقارنة البسيطة التي أجريها بين شاعرين عظيمين عاشا في عصرين مُختلفين وفي مُجتمعات وبيئات لا تتشابه أبداً ، أن أخوض في تفاصيل هذا الخلاف ولكن أكتفي بأن أقول أن الرأي الغالب الآن بين المُهتمين بهذه القضية هو أن اليونانيين كانوا على حق في اعتقادهم ، وإن الملحمتين ربما كانتا من نُظم شاعر واحد ، وإن كان لا يزال هناك من يفترض وجود شاعرين تفصل بينهما فترة زمنية وصلت في أحد الآراء إلى نحو مائة عام.

 

          وحتى إذا افترضنا أن الملحمتين من نظم شاعر واحد فإن هذا  لا يضع حداً للقضية ، إذ لا يزال هناك خلاف حول حقيقة الدور الذي قام به هذا الشاعر الواحد ، وهناك إتجاهان فيما يخص هذه المسألة ، أحدهما يرى الداعون إليه أن هوميروس إنتفع بالمقطوعات الشعرية التي كانت موجودة ومُتراكمة في التراث الشعبي الإغريقي في الفترة السابقة لظهوره . ثم أضاف إليها لمساته الخاصّة لُيخرجهما في صورة الملحمتين كما نعرفهما الآن . بينما يرى أنصار الإتجاه الآخر أن الشاعر نَظَمَ ملحمتيه في البداية ثم حدثت بعد ذلك إضافات تفصيلية عليهما قام بها شعراء آخرون .

 

ولنأتي الآن على الشاعر العراقي العربي مظفر النواب ، واسع الشهرة والذي عرفه العراقيون كشاعر شعبي مُبدع ألهب حماس سامعيه بشعره العاطفي والوطني  وعرفه العرب ثائراً يهز بهجاءه عروش الملوك والأمراء المُستبدين ، وتأتي المُفارقة ليصفه بعض خصومه السياسيين على أنه من أصل هندي أو باكستاني أو أفغاني . وبعد مخاض بعيد المدى مرَّ به الشاعر عبر كفاح مُسلّح وسجون ومنافي مُدافعاً عن مصالح شعبه. واليوم وقد عاد إلى وطنه كطير مُتعب بعد رحلة شاقّة ، ألمَّ به مرض من خلالها . ولينتهي النقاش في هذا الموضوع وليُثبت كل المؤرخون والنقّاد بأنه ينتمي إلى عائلة عريقة بالأساس من شبه الجزيرة العربية ، إستقرت في بغداد ، ولأنها كانت من سُلالة الإمام موسى الكاظم عليه السلام ، وهاجرت العائلة إلى الهند ولكنا وكشمير ، بعد إغتيال الإمام موسى الكاظم بالسم في عصر هارون الرشيد . وبعد إستيلاء الإنكليز على الهند . أبدت العائلة روح المُقاومة ضد الإحتلال البريطاني للهند . وبعد قمع الثورة الهندية الوطنية ، تم ترحيل العائلة الى الخارج ، فآختارت العراق موطنها القديم .

 

          وانتهى اللبس والغموض في هذه الناحية التي تخص أصل مظفر النواب ومنشأه.

 

ثم أثيرت مواضيعاً أخرى تخص مواقفه السياسية وفق مواقف المُحبين والكارهين له من السياسيين.. لكن مُظفر ظلَّ يمثل بالنسبة للمواطنين مثالاً وحلماً جميلاً . وبالغ بعض البسطاء في إضفاء حوادث اسطورية عنه ، بعضها كان مظفر يؤيدها وبعضها كان ينفيها ... وتأتي تكملة القصة مع مظفر ليُتَهَم من حُساده بعدم عائدية بعض قصائده التي اشتهرت بأسمه بأنها له.

 

          ويعرف من عايش ثورة 14 تموز 1958 في العراق والمُنجزات الكبيرة التي حققتها على الصعيدين الإجاماعي والسياسي ، بأنها خلقت أجواءاً جديدة لنهوض الثقافة والأدب والفن وأجزم بأن النتاجات والإبداعات التي تحققت في مختلف المجالات وبمدة ثلاث سنوات ، ربما تساوي نتاجات ثلاث عقود سبقتها ... في فترة الإنطلاق هذه قرر إتحاد الأدباء العراقيين إرسال بعثة مُكوّنة من أربعة أدباء ليتوغل إلى الريف العراقي في مناطق الأهوار ويقوم بتسجيل التراث الشعبي، الذي كان مطموراً بذاكرة الحفاظ ممن يتناولوه ويتبادلوه شفاهاً بعيداً عن مسامع ادباء اللغة الفُصحى في نوادي ومُنتديات المدن الحضرية .

 

          ذكر لي المرحوم القصاص "نزار عباس" بأنه كان هو أحد أعضاء تلك البعثة وقد حملوا معهم مُسجلاً صغيراً يعمل بالبطاريات ، إستعاروه من مديرية الإذاعة والتلفزيون .. وقد أيّدَ هذا القول المرحوم الأستاذ الشاعر الكبير كاظم السماوي ، والذي كان أنذاك يشغل منصب المُدير العام للإذاعة والتلفزيون ، وأضاف بأن المُديرية المذكورة كانت تملك أربعة أجهزة تسجيل صغيرة فقط ، وبعد عودة الوفد من أهوار الجنوب لم يبق لديه سوى ثلاثة أجهزة بسبب فقدان الرابع ، وعدم إرجاعه.

 

يضيف نزار عباس بأن  " قصيدة الريل وحمد " كانت من ضمن القصائد المُسجّلة ضمن التراث الشعري الذي وثقته البعثة ، وكان الشاعر الكبير مظفر النواب أول من استقبلهم وطلب منهم أن يستمع الى محتوى التسجيل . وقد أبدى إعجابه بهذه القصيدة ، والتي كانت مكتوبة بصيغة يصعب على سكان الحضر إستساغتها ، وبالذائقة التي يمتلكها مظفر إستطاع أن يكتبها ويصيغها بإسلوبه الذي استهوى الكثير من الأدباء العراقيين لقراءتها والإنتباه إلى الجماليات التي يمتلكها الأدب الشعبي . فقد ولدت هذه القصيدة آفاقاً وإندفاعاً غير مسبوق من الأدباء والقرّاء لتناول القصيدة بالقراءة والنقد وبعد أن نُشرَت في إحدى المجلات الأدبية العراقية تم عقد ندوات في كثير من فروع إتحاد الإدباء في المدن العراقية لمُناقشتها ، وعلى سبيل الذكر لا التبجح كنتُ أنا من كُلفَ آنذاك من قبل فرع إتحاد الأدباء بالبصرة بقراءتها .. وقد اندفع الكثير من شعراء قصيدة الفُصحى للولوج في مُحاولات كتابة الشعر الشعبي .. لا أنكر وجود عدد غير قليل من ناظمي الشعر الشعبي في تلك الفترة .. إلا أن هذه القصيدة لامست وجدانهم وألهبت الحماس لديهم للتسابق في تطوير أساليبهم ومفرداتهم وصورهم الشعرية . وأنا واحد من الذين كتبتُ بعض مُحاولاتي في الشعر الشعبي ونشرتُ بعضها.

 

          مظفر النواب المبدع الكبير ، ذو الإحساس المُرهف ، وبعد هذا النجاح الكبير الذي حققته قصيدته الخالدة "للريل وحمد" لم يتوقف ولم يكتفي بل أصبح يتحدى نفسه بوابل من القصائد التي ذاع صيتها وظلّت تُتَداول على ألسنة كل الناس .. ولكن القصيدة الأولى التي عاشت لفترة نصف قرن ولا تزال طرّية على أفواه الشعراء وهواة قراءة الشعر فهي تحتوي على صور مُتعددة تكوّن تكاملاً مُنسجماً من الإلهام الفنّي.

 

    وبعد أن تعرض شاعرنا الى مرض شديد في السنوات الأخيرة برزت ظاهرة جديدة  هو أن بعض الطفيليين صاروا يكتبوا قصائدا ( لا ترقى الى المستوى الأبداعي الرفيع الذي يتمتع بها مظفر) ولكنهم نسبوها اليه . ولم يساعده وضعه للرد عليهم .

 

وعلى كل حال فإنَّ شاعرنا المُبدع كان قد نجح في الوصول الى تدوين فترة عصبية من تاريخ شعبنا بكل الوسائل التي يمكن أن تصل إليها مهارة الأديب ، سواء أكانت الوسيلة ذكريات وتداعيات يرويها أبطال قصائده أو تنبؤات عن المستقبل أو مقارنات بين حوادث وقعت في أزمنة وأماكن مُختلفة أو استطرادات  على لسان أبطال من عامة الشعب أو يقوم هو ذاته واصفاً أو مًعلقاً على عصر مُلتهب يسبق تحقيق الحلم الذي طان يراوده بأن يرى شعبهُ حراً وسعيداً ينعم بالحب والرخاء..مثلما أرادَ هوميروس أن يُسجّل بطولات شعبهِ في معاركهِ المصيرية كذلك إستطاع النواب أن ينتصر لشعبهِ وليبقى إسمه خالد ستذكرهُ الأجيال.

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.