اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

• كيف تكتب إيزابيلا قصصها القصيرة؟

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 د. هاشم عبود الموسوي

 كيف تكتب إيزابيلا قصصها القصيرة؟

 

إيزابيلا اليندي: كاتبة وروائية شيلية وُلدت عام 1942ف، لها شهرة كبيرة بين كُتَّاب أمريكا اللاتينية، بدأت حياتها الأدبية في الصحافة، وكتبت أولى رواياتها في منفاها في فنزويلا بعد

 

الانقلاب الذي أطاح بعمها سلفادور اليندي، وكانت الرواية بعنوان: "بيت الأشباح"، وهي رواية يعتبرها النقاد أنموذجاً للواقعية السحرية التي اشتهر بها كتاب كثيرون من أمريكا اللاتينية، والذين من بينهم غارثيا ماركيث. وللكاتبة مجموعة من القصص القصيرة وروايات أخرى أهمها "عن العشق والظل" وكذلك رواية "إيفا لونا".

 

بعد عودتي في بداية السبعينات من ألمانيا إلى وطني العراق، تركت هناك صديقاً أديباً قصاصاً، عرفته المنتديات الأدبية البغدادية في ستينات القرن الماضي، وكان ينتمي إلى جماعة أسمت نفسها في حينها "جماعة كركوك"، ذاك هو الأديب القصاص "أنور الغساني".. وأنا في لجة أحداث العراق، سمعت عنه آنذاك بأنّه تزوّج صديقته اللاتينية، وسافر معها ليُقيم في الأقاصي البعيدة.. وطوال إقامتي التي دامت أكثر من عشرين عاماً في وطني، وحتى مغادرته مرّة أخرى عام 1994، حرصتُ على عدم الاتصال بأيٍ من الأصدقاء خارج العراق.. ولأسباب قد يعرفها البعض.. ولكني هنا أريد أن أكتب عن إحدى الكاتبات الشهيرات في أمريكا اللاتينية، والتي أمدني بالمقالات والمعلومات عنها صديقي الراحل "أنور الغساني" إضافةً إلى نتاجات متنوعة من كتاب وأدباء أمريكا اللاتينية بعضها باللغة الإنجليزية وبعضها الآخر بالأسبانية أو البرتغالية.

 

ولأنني استطعتُ أن أرجع بعض خطوط الاتصال مع من بقى من أصدقائي على قيد الحياة حالما أصبحتُ خارج الأراضي العراقية.. ومنهم أنور. لم أكن أعلم عن رحيل أنور إلا من خلال ريبورتاج كتبه لي صديق آخر من ألمانيا، يصف به كيف أنهم استذكروا من غادرهم بلا رجعة مثل المسرحي د. عوني كرومي وصديقهم أنور الغساني. لقد ذكر لي المرحون بأنّه كان ينوي أن يقوم بترجمة إحدى روايات الكاتبة "إيزابيلا اليندي"، ولا أدري إن كان أفلح في ذلك قبل أن يأخذه الموت منا.. هذه المقدمة ليست سوى ذكرى لصديق أسدى إليّ جميلاً بتزويدي بكنوز أدبية قيمة.. المعذرة للقراء عن الدمعة التي ذرفتها على الورق، قبل أن أزفّ لهم هذه الدراسة المقتضبة عن إيزابيلا اليندي.

 

سأحاول أن اقتني بعض ما استطعت أن أترجمه عن البيئة الجغرافية والتأريخية والاجتماعية لهذه المبدعة، والتي كانت لها الأثر الكبير في صقل أدبها وتأثيرها عليها، حيث يظهر ذلك بوضوح من خلال سيرتها الذاتية. فهي تذكر في أحد المقاطع الذي تريد أن تعرفنا فيه على روافد توقها لكتابة القصة قائلة: "هناك حبٌ مشترك يجمع الناس: حبهم سماع القصص، ولاشك أن أجدادنا الأولين اخترعوا القصص منذ أن كانوا يجلسون حول النار في ليالي شتاء العصر الحجري القديم. لقد كانت حياتي مفعمة بالمغامرات، لقد عشتُ ثورات ثلاثاً، وعشت غزو لبلادي من طرف الجيوش الأمريكية، ونجيت من أربعة زلازل ومن انقلاب عسكري مات فيه عمي، ولقد ظننت أن العنف كان يتبعني أينما كنت، وعندما قامت حرب الشرق الأوسط ظننت أنني كنت مسؤولة عن ذلك، وعندما سافرت للإقامة في أمريكا ظننت أن سوء الحظ سوف يذهب عني، ولكن ها أنا بعد ثلاث سنوات من إقامتي أنجو من زلزال ومن إعصار دمّر جزءاً من المدينة، ثم بعد ثلاث سنوات عشت حريق "بيركلي" وكنت ذات يوم في مصرف عندما اقتحمه اللصوص، ترى هل كنتُ أنا المسؤولة عن كل ذلك؟".

 

وتقول في مقطع آخر: "أنا من بلدٍ يكثر فيه رواة القصص، ففي دول العالم الثالث – حيث يكثر عدد الأميين ويقل عدد الذين يستطيعون شراء الكتب – فإن الرواة يروون حكاياتهم في الأسواق، ويلقي الشعراء قصائدهم من على المنابر. إن في ذلك حماية للذاكرة الجماعية، لكن تلك الثقافة الشفهية بدأت تأخذ سبيلها إلى الزوال بعد تطور وسائل الإعلام الجديدة ولكن مهنة الرواة ومفسري الأحلام لم تختفِ، لقد تحوّل الرواة والمفسرين إلى كُتّاب. كنتُ أتساءل دائماً: لماذا يأخذ كُتّاب القصة في بلدي مكانةً خاصة، ففي أوروبا وأمريكا الكاتب هو مجرد كاتب مهم صادفه النجاح ولكن في أمريكا اللاتينية يُمكنك أن تصبح رئيساً للجمهورية لو كنتَ كاتباً جيداً، إن صوتك مسموع في كل مكان، ولسوف يستشيرونك في كل الأمور.. هذا بالطبع لو كنتَ رجلاً، أما المرأة فهي خلقٌ آخر. دعني أحاول الإجابة على هذا السؤال.

 

منذ خمسة قرون، عندما وصل الأسبان والبرتغاليون إلى هذه القارة حدث تصادم بين حضارتين، المملكة المسيحية من جهة والثيوقراطية الهندية من جهة أخرى. لقد قام الرجال الذين جاءوا بعد كريستوف كولومبس بأكبر مذابح عرفها التاريخ، لقد مات الملايين في الأسر بعد أن دمرت مدنهم، ثم جاء ملايين الآخرين من بلدان كثيرة من العالم هاربين من فقرهم ومن حكامهم فأحضروا معهم عاداتهم ولغاتهم، وكذلك ذكرياتهم وآلامهم، ثم اختلط هؤلاء بالسكان الأصليين فأنجبوا أناساً ذوي قدرٍ مأساوي وخيالٍ لا حدود له. يسمينا الجميع أمريكيين لاتينيين ولكن مجتمعنا ليس مجتمعاً متناسقاً، وقارتنا حديقة متعددة الأزهار يُصاب الذي يدخلها بالدوار، فعندما يأتي السائح إلى هنا ويأخذ في تصوير الناس والشوارع ثم يعود إلى بلده، لا يستطيع هناك أن يُميّز بين البلدان التي رأى، إنه لا يعرف في أي بلدٍ أخذ تلك الصورة، أتلك فنزويلا؟ الأرجنتين؟ تشيلي؟ ترى في أي بلدٍ أخذ تلك الصورة؟ إنه لا يجد الإجابة، سيقول فقط في أمريكا اللاتينية، وقد يرجع ذلك لسببٍ واحد هو أننا في أمريكا الجنوبية احتفظنا بثقافتنا، وفي هذه المنطقة نجح الكتاب والشعراء والفنانون فيما فشل فيه السياسيون، لقد استطاع الكتّاب والشعراء أن ينسجوا في مخيلتهم ماضياً وكان ذلك يظهر في كتاباتهم – وبطريقتهم الخاصة – فيرون ويكتبون تاريخ أمريكا اللاتينية للعالم ويكتبون عنا لنا".

 

وعندما بدأت هذه المبدعة بالحديث عن طريقتها بالكتابة، قالت:

 

"لكل كاتب طريقته في الكتابة ولكلٍ حيلته، لقد كتبتُ القصة ثلاثة عشر عاماً ولم أتعلّم إلا القليل، عليّ أن أبدأ من الخربشة، ولابد أن أخترع في كل مرة كل شيء، ولكنني أحاول الاحتفاظ بطريقة معينة في كتابة القصة القصيرة، القصة تتحدث دائماً عن التغيّر، ليس ثمة قصة حقيقية لا يحدث فيها تغيّر.. يحدث الحدث فيؤدي ذلك إلى تغيّر في شخصية من الشخصيات، وقد تكون تحولات الشخصية بطريقة غير مباشرة ولكنها تغيرات على أية حال. في القصة القصيرة المعاصرة يأخذ المكان أهمية كبيرة ولكن التغيّر طفيف للغاية، وأنا لا أستطيع كتابة مثل هذه القصص، إنني أحتاج إلى الحبكة، إنك تقرأ أن شخصاً ما يمشي على الشاطئ، ثم يمشي على الشاطئ، ثم يمشي على الشاطئ، وتجده بعد ثلاثين صفحة ما زال يمشي، هذه هي القصة القصيرة المعاصرة، عندما أقرأ هذا كم أتمنى أن يخرج سمك القرش ليلتهم هذا الذي يمشي لكي نتخلّص منه. لكن للأسف ليس ثمة أسماك قرش في مثل هذه القصص.

 

وعندما أعرف نقطة التحوّل في الشخصية التي أتحدث عنها تأتي نهاية القصة بيسرٍ وبطريقة طبيعية. إني أفضل الكتابة عن زمان ومكان غير محددين إلا إذا احتاج السرد إلى تحديد المكان والزمان، وهذا نادر عندي، وأنت عندما لا تحدد الزمان ولا المكان فإن هذا يعطي للقصة جانباً أسطورياً، وفي مجموعتي القصصية ثمة أجزاء تلمح لأمريكا اللاتينية ولكنني لم أستعمل أسماء أماكن ولا أزمنة معينة، فكانت تحركات بيليزا بين الجبال الباردة والشواطئ الدافئة وفي زمن حرب أهلية لم أذكر اسمها. إن ذلك يدفع القارئ على اختراع بيئة معينة ويتخيّل أية حرب أهلية تحرّكت أثنائها بيليزا، فالمكان هنا ليس إذن الجنرال، الكلمتان اللتان ظلتا تطاردانه حتى استسلم إلى سحر القصة، وكل جملة في القصة تعمل على وصف ذلك التحوّل.

 

في القصة القصيرة أنت لا تملك الوقت لتحلل تطور الشخصيات، يحتاج القاص أن يحضرهم للحياة في عدة كلمات، ودون حاجة للوصف، أحاول توضيح سمات الشخصيات من خلال أفعالها، فمثلاً الوصف الوحيد لبيليزا كربسكلاريو يتم عندما تنحني لتوشوش الكلمتين في أذن الجنرال: "شم الرجل رائحة قطة جبلية تخرج منها، وأحس حرارة ملتهبة تخرج من شفتيها، وسمع من شعرها همساً رقيقاً ويحسّ بتنهّد النعناع يهمس في أذنه". لم أصف الراوية بأكثر من هذا. لكنّ القارئ سيتخيّل أن ساقيها قويتان من المشي الطويل عبر البلاد ويدلّ سلوك المرأة على أنها في شبابها وأنها تحمل الإصرار فيما تفعل وأنها "جلفة" أما الباقي فيعتمد على مخيلة القارئ.

 

وبنفس الطريقة يتم وصف الشخصيات الثانوية اعتماداً على الدور الذي تؤديه في القصة، في قصتي كان للجنرال يد يمنى يُدعى المولاتو، ما أن يظهر في القصة حتى نكتشف أنه سريع في استعمال سكينه وأنه مخلص للجنرال، لأن ذلك مهم لما سيأتي بعدها في القصة. أحاول في القصة القصيرة أن أتجنّب فقدان الخيط الذي يربط بين الأحداث وأحاول ربط العقدة بإحكام. وأرى الرواية مثل شجرة التين فروعها كثيرة وأوراقها وارفة وأكلها كثير، أما القصة القصيرة فلابد أن تكون نخلة ومستقيمة ورشيقة مثل نخلة، تأتي القصة القصيرة عندي كوحدة كاملة يجب أن أعرفها قبل أن أبدأ في كتابة الجملة الأولى منها.

 

يحتاج الكاتب العزلة للكتابة، وهو في حاجة للابتعاد عن ضوضاء هذا العالم، فالكتابة عمل فردي وخاص ويحتاج القاص ترك كل شيء إلا الطاقة الإبداعية التي تدفعه إلى الكتابة، إن القاص يدخل وحده إلى عالم القصة الغريب. عندما أبدأ في الكتابة أحتاج إلى التركيز، أجلس وأستمع إلى أنفاسي عدة دقائق فأحس بالدم يسري في عروقي وأفرغ عقلي من الشوائب وكأنني في صلاة، أشعل بعدها شمعة وكأنها تحية لملهمي وللملائكة وللأرواح وللذكريات التي تأتي إليّ. إن الشمعة عندي رمز أرى به ما هو خلف وأبعد من الحقائق، وككاتبة عليّ أن أنظر إلى الأحداث من زاوية غير عادية لأتمكن من الدخول إلى عالم الأسرار وان اكتشف ما هو خفيّ وأن استكشف كهوف العقل البشري الأشد ظلمة، ظننتُ أن الشمعة تضيء لي السبيل.

 

على [الكمبيوتر] أشرع في كتابة أول جملة، أحاول أن تخرج الجملة الأولى من أعماق قلبي لا من عقلي لأن الجملة الأولى هي التي ستعطي جو القصة. عندما كتبت قصة "جاءنا باراباس من البحر" لم أكن أعرف من هو باراباس، والجملة الأولى هي برزخ أعبره إلى مكان وزمان القصة الذين فيهما أقابل الشخصيات، وبعد الجملة الأولى تترعرع القصة وحدها، فلو حاولت أن أدفعها إلى النمو تقف وتخونني الشخصيات أو تهرب مني وأفقد كل رغبة في الكتابة وأحس أنني أتخذ اتجاهاً خاطئاً، لابد أن أترك القصة تتحرك وحدها، علىّ أن أثق في تسلسل الأحداث وفي غريزتي وقدراتي وكذلك حسن الطالع. عندما تكتب تمتّعْ بالكتابة، انس الكتب والنقاد، واتبع قلبك، تمتّع باللغة وغامر، وافتح عقلك فليس ثمّة أحد خلف ظهرك يقرأ أخطاءك.

 

قال أحدهم مرّة أنّ الرواية للمجتمع مثل الأحلام للفرد، فعلى المستوى الفردي نحتاج الأحلام لنُطلق سراح العقل، فالذي لا يحلم يدخل في الجنون، ونحن نريد القصص لكي نفسّر العقل الجماعي، فالبشرية ترغب في فهم نفسها واستكشاف القوة الخفية التي تتحكم في البشر، إنّه السر في الكتابة، وفي الكلمة المكتوبة سحر لم تعرفه البشرية بعد، لقد استعمل الإنسان الكلمات وعلى مدى العصور لكن الكلمة تظلّ مثل جوادٍ بريّ لا يُروّض، ومثل الأحلام لا تتبع إلا قوانينها الخاصة.

 

لقد قضيتُ طفولتي في المطبخ أستمع إلى الطاهيات وهنّ يروين القصص وإلى المذياع الذي كان ينقل لنا الروايات والمسرحيات، وملأت الكتب أوقات فراغي ثم حلّت الشاشة الفضية مكان الحكايات، لا يستطيع أحد تخيّل أهمية المسلسلات المرئية في بلدي، إنّ الرجال يتركون أعمالهم لمشاهدتها وتهمل الأمهات أولادهنّ عندما يظهر البطل على الشاشة، ويسمح أرباب العمل عادةً للعمال بالخروج من العمل مبكراً لكي يتمكنوا من مشاهدة الحلقة الأخيرة من المسلسل، لا أحد يُكلّم بالهاتف أثناء البث، الكلّ يؤخر الأعراس والمآتم لو صادف وقتها أحد المسلسلات.

 

أتذكّر مسلسلاً كان معروفاً في الستينات، وكان عنوانه "نينو" لم يكن يتحدث مثل المسلسلات الأخرى عن مليونير يقع في حب شابة يتيمة وفقيرة، كان "نينو" جزاراً وكانت صديقته مُدرّسة، ولكنهما لم يُقبّلا بعض إلا بعد 275 حلقة، ولقد أُعيد بثّ تلك القبلة تسع مرات بعد طلب المشاهدين وتحدّثت الأخبار عن تلك القبلة، وحصل المسلسل على جائزة بسبب ذلك.

 

ثمّة سر يجعلنا نكتب القصص، إن الكاتب يستعمل مخيلته ليدخل في عقل القارئ، ويجعله يستسلم لقراءة القصة حتى النهاية – ليستسلم لسحر الأدب – في القصة تباح الأشياء شرط أن تكون منطقية فتشدّ انتباه القارئ، والكثير يظن أن شخصيات مثل سكارليت أوهارا أو العم توم هي شخصيات حقيقية، وأنا أشك في وجود جدتي ولكني لا أشك في وجود كلاراديل فالي وهي الجدة في أولى رواياتي.

 

يسألني الناس كم الحقيقة في كتاباتي وكم أخترع، في الواقع لم أعد أستطيع رؤية الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال، تقول أمي أني أحسن الكذب وهي لا تتذكر شيئاً مما أقول من ذكريات، لا أعرف ماذا حدث لذاكرتي.

 

قرأت قصة في كتاب لإدواردو غاليانو، وهي قصة عن الكتابة أحبها كثيراً، تقول القصة:

 

كان ثمة رجل عجوز يعيش في عزلةٍ عن الناس، وكان العجوز يقضي جلّ وقته في الفراش؟، فجاءت الإشاعة تردّد أن لديه كنزاً في بيته. فدخل عليه اللصوص ذات يوم ولكنهم لم يجدوا غير صندوق في القبو فأخذوه وعندما فتحوه وجدوا أنه مفعم برسائل الحب التي وصلت طوال حياة العجوز، ولم يكن به نقود، فأراد اللصوص حرق الرسائل ولكن قال أحدهم أرجعوا الرسائل لصاحبها، ولكنهم قرّروا أن يبعثوها له واحدة واحدة، رسالة في كل أسبوع، ومنذ ذلك اليوم أصبح العجوز ينتظر ظهر كل يوم اثنين ساعي البريد، وكان قلب العجوز يخفق بقوة في كل مرة يمد له ساعي البريد برسالة، وكان العجوز يقرأ كل رسالة بشغف وكأنه يعيش قصص حب جديدة.

 

ألا نرى هنا مكانة الأدب؟ فاللصوص هم الكتاب، يأخذون من الواقع أشياء يحولونها إلى شيءٍ جديد، لقد كانت الرسائل سجينة في صندوق العجوز منذ سنين، وكانت الرسائل ميتة فبعث اللصوص فيها الحياة وأخذوا يحرّكون قلب العجوز في ظهر كل يوم اثنين، وذلك خير ما في الكتابة: البحث عن الكنوز الخفية وبعث الحياة في القلوب المتعبة.

 

وهكذا تكون الرواية أقرب إلى الواقع من الآداب الأخرى، والقصة الجيدة ليست القصة التي تحمل إثارة في الأحداث بل تلك التي تدعو القارئ لاستكشاف ما هو خفي في الأشياء. إن الأعمال الروائية الجيدة توقظ الضمائر وتجمع الناس وتحث وتدفع على التغيير رغم أن ذلك لم يكن هدف الكاتب الأول، وما يدفع الكاتب هو شيءٌ بسيط: الحاجة الملحة لرواية الأحداث.

 

ورواية الأحداث هي تجربة عضوية مثل الأمومة، إنه شغفٌ يُغيّر الوجود، وفيه شعور بالنشوة، لقد ساعدتني الكتابة في طرد الآلام التي في داخلي فحوّلت هزيمتي إلى نصر، ومنذ أن بدأت الكتابة منذ ثلاثة عشر عاماً أصبحت أطارد الحكايات وأحس كأنني أسرق من الآخرين أحداثهم فأكتبها ولعلّي أتذكّر قصيدة كتبها بابلو نيرودا تعبّر عن رغبة الكاتب في أن يكون جزءاً من تجربة الآخرين.

 

يقول نيرودا:

أعطني لحياتي

حياة الآخرين

وأعطني كل أحزان العالم

وأنا سأحولها إلى أمل

أعطني كل السعادة

ظاهرها وباطنها، وكيف تكون سعادة

إن لم يعرفها الآخرون

إني سوف أخبرها

أعطني العناء اليومي

لأن ذلك هو قصيدتي"

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.