اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

صفقة القرن ليست قدراً محتوماً// فهد سليمان

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

فهد سليمان

 

 

صفقة القرن ليست قدراً محتوماً

فهد سليمان

نائب الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

 

(1)

موقعية المسار الإقتصادي

ليست هي المرة الأولى التي تدعو فيها الولايات المتحدة إلى مسار إقتصادي، موازٍ للمسار السياسي في طرح رؤيتها لما تسميه حل قضية الشرق الأوسط، وتسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، بل يجب التأكيد أن مثل هذه الدعوة تنتسب إلى نهج ثابت، إتبعته الولايات المتحدة في جميع المفاوضات التي جرت بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.

فالمسار التفاوضي الذي إنطلق من مؤتمر مدريد في 30/10/1991 واستؤنف بمسارات ثنائية في واشنطن على مدار سنتين، بين الدول العربية المحتلة أراضيها(فلسطين - لبنان - سوريا - الأردن)، وبين إسرائيل، على أن يتناول مصير الأراضي العربية الواقعة تحت الإحتلال، إنطلق إلى جانبه مسار آخر أطلقت عليه تسمية «المسار متعدد الطرف»، وكان جدول أعماله مشابهاً لجدول أعمال ورشة البحرين، لا بل تجاوزه شمولاً، حيث تناول جميع القضايا في مداها الإقليمي الأوسع الذي يتجاوز حدود دول الطوق، أي تلك القضايا المتعلقة بالتنمية الإقتصادية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وما يرتبط بها من ملفات، كالبيئة والمياه والأمن والمراقبة على التسلح، وقضايا أخرى. وإنطلق هذان المساران في فترة زمنية متقاربة: السياسي - الثنائي في العام 1991، والمتعدد الطرف- الإقليمي الشامل في مطلع العام 1992.

هذا ما تحاول أن تستعيده صفقة ترامب - نتنياهو (صفقة القرن) لصياغة التسوية السياسية للصراع في المنطقة، عبر بوابة الإقتصاد، وبالتالي لسنا أمام مسار مستجد، بل أمام مسار يستأنف ما إنقطع قبل عقدين ونيِّف من الزمن، إنما بصيغة جديدة؛ ذلك أنه على خلاف مسارات مفاوضات مدريد – واشنطن السياسية (الثنائية)، فإن المشروع الأميركي الجديد منح الأولوية للمسار الإقتصادي، كمدخل للمسار السياسي. بينما، وفي مؤتمر مدريد - واشنطن، كانت الترتيبات الإقليمية، من خلال المفاوضات متعددة الطرف، تعتبر مساراً مساعداً. هذا لا يعني أنه لا وظيفة سياسية للمسار الإقتصادي الذي إفتتحته ورشة البحرين، بل إن الوظيفة السياسية – المهمة لا ريب - تتوارى وراء العنوان الإقتصادي، وهو يطال في تداعياته وأهدافه الإقليم بأسره.

ما جرى في ورشة المنامة ( 25-26/6/2019) - أي على المسار الإقتصادي- كان عرضاً إعلامياً سياسياً معولماً. وهو ليس في حقيقته إلا ظلاً لما كان قد جرى قبل 25 سنة، عندما عقد، على سبيل المثال، المؤتمر الإقتصادي للشرق الأوسط  وشمال إفريقيا، في الدار البيضاء (المغرب) في تشرين الأول (أكتوبر) 1994، مستظلاً باتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير ومعاهدة وادي عربة مع الأردن. وكان جدول هذا المؤتمر، وحجم الحضور فيه ومستوى تطلعاته أهَّم بكثير من ورشة المنامة. شارك في مؤتمر الدار البيضاء الإقتصادي 1114 رجل أعمال من كل أنحاء العالم، مثلوا 61 دولة. أما المؤتمر الثاني، فانعقد في السياق نفسه، في العاصمة الأردنية عمان، في تشرين الأول (أكتوبر) 1995 وشغل حضوراً كثيفاً ومماثلاً لمؤتمر الدار البيضاء، من حيث العدد ومستوى التمثيل. وإذا ما أجرينا المقارنة بين هذه الفعاليات الثلاث لتبيّن لنا كم تبدو ورشة البحرين متواضعة، إن لم تكن باهتة قياساً بمؤتمري الدار البيضاء وعمان، وما خرجا به من إتفاقيات

أما المقصود بهذه الإتفاقات فهو ترتيبات عملية «ستساعد في تثبيت مسيرة السلام» من خلال مؤسسات معنية بقضايا البنية التحتية، والسياحة، والتجارة، والمال، ومجالات أخرى، مؤسسات ترمي إلى تنمية القطاع الخاص، وتوفر منتدى لتشجيع التعاون الإقتصادي الإقليمي: 1- بنك التنمية والتعاون الإقتصادي (مقره القاهرة)؛ 2- مجلس سياحة إقليمي؛ 3- مجلس تجارة إقليمي؛ 4- أمانة سر تنفيذية للقمة الإقتصادية (مقرها الرباط)؛ 5- أمانة سر لجنة المراقبة لمجموعة العمل الخاصة بالتنمية الإقتصادية الإقليمية (مقرها عمّان).

لم تقيَّض لهذه المؤسسات الحياة بسبب تعثر أو توقف المسارات السياسية، كما توقف إنعقاد القمم الإقتصادية أصلاً، بعد أن كان من المقرر أن تستضيف القاهرة القمة الإقتصادية الثالثة (1996)، ودولة قطر القمة الرابعة (1997).

كذلك الأمر تم تعليق المفاوضات متعددة الطرف رسمياً في تشرين الثاني (نوفمبر) 1996؛ السبب الأهم في إنهيار المسار المتعدد، ومعه إجتماعات مجموعات العمل المعنية بقضايا التعاون الإقليمي (التنمية الإقتصادية، المياه، البيئة، اللاجئون، ضبط التسلح والأمن الإقليمي)، هو إنهيار المسار السياسي بين إسرائيل والفلسطينيين خلال فترة حكومة نتنياهو الأولى (1996-1999)، ما يؤكد أولوية المسار السياسي المتعلق بالأرض والسيادة عليها وسائر الحقوق الوطنية على ما عداه؛ ما يعني أيضاً فشل المسار الإقتصادي، إن كان من خلال المفاوضات المتعددة الطرف ومجموعات العمل المختصة في نطاقها، أو المؤتمرات الإقتصادية للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في أن يلعب الدور المرسوم له، في فتح الطريق، أو حتى في تقديم المساعدة المؤثرة في فتح الطريق أمام المسار السياسي، وصولاً إلى التسوية السياسية

 

(2)

قصور الوسائل عن الأهداف المرسومة

المسار الإقتصادي، بأشكاله وصيغه الآنف ذكرها، لم يحقق أية نتيجة بما تم الإعلان عن التوصل إليه من إتفاقيات وتوصيات ومشاريع، ومؤسسات، الخ.. لماذا؟ نعيد ونكرر لسبب بسيط، لأن المسار السياسي على جبهة المفاوضات الثنائية لم يحسم مصير الأرض وقضايا السيادة عليها. لذا علينا ألا نصاب بالإنبهار الإعلامي الذي حاولت الإدارة الأميركية إستخدامه – بلا نتيجة تذكر-، في تسويقها لورشة البحرين، تساندها في ذلك دولة الإحتلال والأطراف العربية المتساوقة أو المتواطئة، والترويج لها على أن الورشة شكلت حدثاً نوعياً. إن ورشة المنامة هي تكرار باهت لتجارب سابقة، وستفشل كما فشلت سابقاتها، لقصور وسائلها عن الأهداف التي ترسمها لنفسها.

هناك ثلاثة أهداف أعلنت على لسان جاريد كوشنر، مستشار الرئيس الأميركي، رُشِّحت ورشة البحرين لتحقيقها:

     الأول: تحقيق نمو إقتصادي فلسطيني بنسبة 100% على مدار عشر سنوات. وهذا بحد ذاته هدف غير واقعي، لأنه يفترض في السنتين الأولى والثانية أنه سيتحقق نمو بنسبة 10%، وبعد ذلك بمعدل 8-8.5%. وإذا كان هذا يعتبر هدفاً صعب المنال، حتى بالنسبة للدول الرأسمالية الكبرى، فكيف سيكون عليه الوضع بالنسبة للحالة الفلسطينية، المعروفة تماماً ببنيتها الإقتصادية الضعيفة والمشوهة، بفعل الإحتلال والهيمنة الإقتصادية لإسرائيل على الإقتصاد الفلسطيني وإلحاقه بها، على ما يزيد نصف قرن من الزمن.

     الثاني: توفير فرص عمل لمليون وثلاثمائة ألف فلسطيني خلال عشر سنوات؛ وهذا هدف، تحقيقه لا يقل صعوبة عن الهدف الأول.

     الثالث: تنمية إقتصادية، بحيث تساوي الصادرات الفلسطينية إلى الخارج 40% من الناتج المحلي الإجمالي.

لكي تتحقق هذه الخطة يجب أن ترتكز إلى القطاعات المنتجة في الإقتصاد الفلسطيني. غير أن إلقاء نظرة على جدول المساعدات الإستثمارية في بنودها المختلفة، تُبيِّن أن ما تم تخصيصه للقطاعات المنتجة يشكل نسبة مئوية بسيطة: فللصناعة 3%، وللزراعة 3%، وللسكن 4%، وللسياحة 5%، ولتطوير خدمات الإنترنت 10%؛ بينما يتم تخصيص 12% لما يسمى بالحوكمة وتحسين أداء المؤسسات الإدارية، و24% تخصص للبنية التحتية وشبكة المواصلات في إطار الجهد الإقتصادي الموجه نحو الخارج.

فضلاً عن ذلك فإن هذه المشاريع، كما هي مرصودة في خطة كوشنر إلى ورشة المنامة، من الصعب جداً أن نجد مستثمراً، عربياً كان أو غير عربي، جاهزاً للمغامرة بأمواله فيها، لسبب بسيط، لأنه لا يمكن أن يكون هناك إستثمار مالي بمعزل عن معرفة وإدراك مستقبل الأراضي الفلسطينية، وما هو الكيان الذي سينشأ في سياق العملية السياسية، أدولة مستقلة ذات سيادة، أم مجرد حكم إداري ذاتي؟ فثمة رابط مباشر – بداهة - بين الإقتصاد والسياسة. فلو أخذنا المعابر والبنية التحتية على سبيل المثال، بحرية كانت أم برية أم جوية؛ والتي من خلالها سيطل الكيان الفلسطيني على الخارج؛ لا بد من حسم لمن ستكون السيادة والسيطرة عليها، خاصة أن خطة كوشنر، كما تقدم بها إلى ورشة البحرين، لا تُلحَظ فيها أية إشارة لمرفأ بحري أو جوي فلسطيني، بل هي تتكلم عن تحسينات على المعابر البرية دون التطرق إلى وضعها السيادي.

وبالتالي ما دامت الخطة تتجاهل موضوع تعريف المستقبل السيادي للكيان السياسي الفلسطيني، وطبيعة هذا الكيان، والذي ستنهض عليه أعمدة النمو الإقتصادي، فإن عوامل الفشل ستبقى غالبة على مخرجات ورشة المنامة، فيما يتصل بالتسوية السياسية على المسار الفلسطيني بأقله. هذا ما تؤكده – على أية حال – نتائج ورشة المنامة، التي لم تخرج بالتزامات محددة من قبل الدول والبنوك والشركات المشاركة، التي لم تتعهد بتقديم أي شيء يُذكر

 

(3)

ترسيم العلاقات مع إسرائيل

في الوقت نفسه، ودون أي تقليل من عناصر الفشل المشار إليها أعلاه، لا نستطيع أن نَسِمْ مخرجات ورشة البحرين بالفشل الكامل، فهي فاشلة من زاوية أن الجانب الفلسطيني – باعتباره الأساس في الموضوع - لم يكن ممثلاً فيها، وبالتالي فهو غير مُلزم بنتائجها؛ وهي فاشلة لأنها إنطوت على حضور عربي رسمي متدني المستوى، (باستثناء تمثيل البحرين، وإلى حد ما تمثيل المملكة العربية السعودية)، حضور إعتمد – بشكل عام – خطاباً إعتذارياً، إستدراكياً في سياق إضطراره للكلام عن أهمية المسار السياسي، والموضوع الفلسطيني بالتحديد.

بالمقابل يجب التنبه إلى خطورة ما سوف تؤسس له هذه الورشة  في المستقبل. فقد شكلت خطوة إضافية على طريق تطبيع العلاقات العربية – الإسرائيلية. هذا كان واحداً من الأهداف الرئيسية المتوخاة من الورشة، وقد أجهد الإعلام الإسرائيلي نفسه لإبراز هذه المسألة، من أجل تغطية جوانب الفشل الأخرى. ولعل من دعا إلى الورشة كان يدرك مسبقاً إحتمالات الفشل في جانب، وإحتمالات النجاح في جانب آخر؛ وبالتالي، فقد حققت الورشة تقدماً في سياق ما يستحق أن نسميه (بدلاً من التطبيع) خطوة إضافية على طريق «ترسيم العلاقات العربية - الإسرائيلية»، فعبارة التطبيع بين كيانين سياسيين، تنطوي بالضرورة على بعد جماهيري - مجتمعي لم يتوفر في الحالة الموصوفة؛ غير أن الورشة – بالمقابل - ثبَّتت مرة أخرى العلاقات الرسمية بين إسرائيل وأنظمة عربية معيّنة، إنطلقت من مرحلة التحرك والتواصل الخجول، نحو شوط جديد، أي نحو بناء وتطوير علاقات في إطار أكسبها المزيد من العلنية والإشهار الرسمي

 

(4)

وحده الموقف الفلسطيني.. ولكن

قوبلت ورشة المنامة، كما قوبلت صفقة ترامب، بموقف فلسطيني وطني موحد، جمع بين موقف القيادة الرسمية وفصائل العمل الوطني وعموم الحالة الشعبية. وقدم الحالة الفلسطينية، في لحظة تاريخية نادرة، في موقف موحد صلب ومتماسك، لعب دوراً في إستنهاض الحالة الشعبية العربية، والمواقف الصديقة الرافضة للمشروع الأميركي، كالموقفين الروسي والصيني، دون أن نتجاهل أو نغفل مواقف بعض العواصم العربية – ومنها عواصم محورية - التي أعلنت مقاطعتها للورشة.

هذا الموقف، وإن حقق هدفه في نزع الغطاء السياسي الفلسطيني عن الورشة، وأفشل جانباً مهماً منها، سيبقى موقفاً ناقصاً إذا لم ينتقل إلى الأمام بخطوات سياسية وعملية وميدانية، لمواجهة المشروع الأميركي - الإسرائيلي ومخرجات الورشة.

يقوم المشروع الأميركي - الإسرائيلي (صفقة القرن، أو صفقة ترامب) على أربعة مرتكزات:

     المرتكز الأول: هو إنكار أي دور لقرارات الشرعية الدولية في الوصول إلى التسوية السياسية، والتأكيد بالمقابل على أن التسوية هي نتاج ومحصلة للأمر الواقع الذي نشأ على إمتداد السنوات الخمسين للإحتلال، كما هو الحال بالنسبة لقضية القدس والجولان السوري المحتل؛ أي الإعتراف بالضم والسيطرة الإسرائيلية على الأرض المحتلة، ومصادرتها لصالح الضم ومشاريع التهويد والإستعمار الإستيطاني. هذه السياسة، تحاول إدارة ترامب تغليفها بأنها «إعتراف بالحقائق» لتغطي حقيقة سياستها ومضمونها المنحاز بشكل فاقع وكامل لجانب الإحتلال ومشاريعه.

 

     المرتكز الثاني: إنطلاقاً مما سبق، لا تفترض «الصفقة» عقد مفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، للوصول إلى تسوية، بل تفترض أن وظيفة المفاوضات أن تجترح الآليات لتطبيق ما يسمى بالأمر الواقع، أي أن الهامش المتاح أمام المفاوض الفلسطيني سيكون ضيقاً جداً، وسيتجاوز القضايا الأساسية، وقد يتيح له، في أفضل الأحوال، تحسين بعض الشروط على الهوامش ليس إلا، في إطار سياسة حفظ ماء الوجه.

     المرتكز الثالث: وهو يشكل جديداً في سياسة الإدارة الأميركية للمسألة الفلسطينية، يقوم على أولوية الترتيبات على مستوى الإقليم، أي على المسار الأميركي - الإسرائيلي – الإقليمي العربي، يتم بالتوازي معها، أو ربما بعدها، الإنتقال إلى المسار الفلسطيني، إستناداً إلى ما ترتب من إنجازات على المسار الإقليمي: من ترتيبات إقتصادية على طريق دمج إسرائيل في المنطقة، وترتيبات أمنية بما ينسجم ويلبي أولويات الإستراتيجية والمصالح الأميركية - الإسرائيلية في الإقليم وفي المنطقة عموماً؛ وكل هذا، وقبله، ترسيم العلاقات بين إسرائيل وبعض الدول العربية، والخليجية منها إبتداءً.

     المرتكز الرابع: ما أشرنا إليه أعلاه، أي أولوية المسار الإقتصادي على المسار السياسي؛ أو إفتتاح المسار السياسي بالمسار الإقتصادي.

بناء عليه، كيف يفترض أن تكون المواجهة الفلسطينية ميدانياً وعملياً لصفقة ترامب ومخرجات ورشة البحرين؟

برأينا، إن الإطار العام للسياسة الرسمية الفلسطينية تشكله – من حيث المبدأ - «مبادرة السلام العربية» (قمة بيروت 2002)، أي الإنسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، وعاصمتها القدس على حدود 4 حزيران (يونيو) 67، وحل قضية اللاجئين بموجب القرار 194. دون أن نغفل، في الوقت نفسه، ضرورة التدقيق النقدي بالسياسات اليومية للقيادة الرسمية، وبمدى تطابقها مع السياسة المعلنة، لاعتبارات – علمَّت التجربة – ضرورة التحلي بأعلى درجات اليقظة حيالها.

ومن بين هذه التدقيقات، أن القيادة الرسمية مازالت تتمسك وتدعو لاستئناف المفاوضات مع دولة الإحتلال. وقد عبّر عن ذلك الرئيس محمود عباس في ما بات يعرف بـ «رؤية الرئيس»، التي قدمها لمجلس الأمن في 20/2/2018، ومازال متمسكاً بها حتى اللحظة (رغم أنه حتى الآن لم يتوفر – والأرجح لن يتوفر - من «يشيلها» من أرضها)، متجاوزاً بذلك أن العملية السياسية، أو ما نسميه المفاوضات، توقفت عملياً منذ أن فشلت في مفاوضات كامب ديفيد الفلسطينية – الإسرائيلية، وبرعاية الرئيس الأميركي كلينتون في تموز(يوليو) 2000.

بعدها إنطلقت الإنتفاضة الثانية (2000–2005)، فتجمَّدت العملية التفاوضية، باستثناء محطة قصيرة هي مفاوضات أنابوليس (2007–2008)، التي إنتهت بعدوان إسرائيلي دموي على قطاع غزة، في ختام الولاية الثانية للرئيس بوش الإبن. ثم إستؤنفت المفاوضات في ولاية الرئيس أوباما الأولى عام 2010، سميت في حينها بمفاوضات التقريب، ولم تنجح أيضاً. وأخيراً تجددت في ولاية أوباما الثانية، وسميت بمفاوضات جون كيري، وقد إستغرقت عشرة أشهر حاول فيها وزير خارجية البيت الأبيض بث الحياة في أوصالها المتيبسة، لكن دون جدوى، وباءت بالفشل أيضاً. وبالتالي، منذ نيسان (إبريل) 2014 والعملية التفاوضية معطلة، بعد أن كانت قد إنتهت عملياً، بالمعنى السياسي، عام 2000.

الجانب الإسرائيلي، يعلن جهاراً عدم رغبته في العودة إلى المفاوضات الثنائية، حتى لو إنعقدت بلا شروط من الجانب الفلسطيني. فهو يتمسك بالمفاوضات في الإطار الإقليمي، وبإنجاز الترتيبات الإقليمية مع بعض الدول العربية، وأهمها قاطبة التقدم في ملف تفعيل وترسيم العلاقات الثنائية مع هذه الدول.

لقد تنبهت المؤسسة الرسمية الفلسطينية – على مستواها التشريعي - إلى هذا الأمر، منذ العام 2015، في الدورة الـ 27 للمجلس المركزي في م.ت.ف، حين إتخذ قرارات، أعاد التأكيد عليها في دورته الـ 28 في 15/1/2018، وطورها المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الـ 23 (30/4 – 3/5/2019).

هذه القرارات رسَّمت إستراتيجية فلسطينية جديدة وبديلة للمفاوضات الميتة في إطار مسار سياسي عقيم، وعنوانها العريض: «الخروج من إتفاقية أوسلو، لصالح إستعادة البرنامج الوطني». ورسَّمت دورة المجلس الوطني الآليات والقرارات، التي من خلالها نستطيع أن نغادر أوسلو، ونعتمد الإستراتيجية الوطنية الفلسطينية الجديدة، وهي:

إعلان إنتهاء العمل بالمرحلة الإنتقالية، وإنهاء الإلتزامات التي ترتبت عليها؛ تعليق الإعتراف بدولة إسرائيل ما لم تعترف إسرائيل بالدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس على حدود 4 حزيران (يونيو) 1967؛ وقف التنسيق الأمني؛ فك الإرتباط ببروتوكول باريس الذي هو الوجه الآخر المتمم إقتصادياً لاتفاقيات أوسلو؛ مساندة حملة المقاطعة (BDS) على مستوى عالمي؛ ومقاطعة المنتجات الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية المحتلة، أي المقاطعة الإقتصادية المتدرجة تصاعداً، لإسرائيل

 

(5)

«مستوطنون» في البيت الأبيض

  المفاوضات كما تدعو لها القيادة الرسمية الفلسطينية، لتمرير الوقت على الأرجح، هي هدف وهمي لا تتوفر شروط إنعقاده، فالجانب الأميركي، حين يدعو، في إطار صفقة ترامب، إلى المفاوضات، فهو لا يدعو إلى التفاوض على الحقوق الفلسطينية تحت سقف قرارات الشرعية الدولية، وإنما للتفاوض، وكما أسلفنا، على تطبيق ما تراه الإدارة الأميركية «أمراً واقعاً» و«حقائق ميدانية» لا بد من الإعتراف بها كأساس مسلم به، للتسوية. هذا يندرج بطبيعة الحال ضمن أولويات السياسة الإستعمارية الإستيطانية الصهيونية، لحكومة نتنياهو الحالية، ولأي حكومة إسرائيلية قادمة بكل تأكيد.

 إن من يملك القرار بصياغة السياسة الأميركية تجاه القضية الفلسطينية والمنطقة عموماً، ليس مجموعة متحيَّزة لإسرائيل فحسب، بل هي «مجموعة المستوطنين» في الإدارة الأميركية. «مستوطنون» بمعنى إعتناقهم لهذا المبدأ السياسي الإستعماري من جهة، «ومستوطنون» بالمعنى الحرفي والحقيقي للكلمة؛ أي هم مستوطنون يقطنون في المستوطنات، و/أو يدعمون بالمال والغطاء السياسي مشاريع الإستيطان. نحن أمام «مجموعة إستيطان ومستوطنين» متوضعة في قلب الإدارة الأميركية، وبالتالي في مركز القرار، وهذه لا ترى في المرحلة القادمة أية فائدة لإدارة مفاوضات، حتى لو كانت مختلة التوازن – كما عهدناها فيما مضى - مع الفلسطينيين. هي ترى الأمر من زاوية فرض آليات تطبيق، أي إملاءات، تؤدي إلى تثبيت الأمر الواقع – الذي تعتبره «حقائق» لا مفر من التسليم بها - بالصيغة التي حددناها أعلاه.

من جهة أخرى، تدرك الإدارة الأميركية حجم العقبات النوعية، التي تعترض سبيل تطبيق هذه الإملاءات على الحالة الفلسطينية خاصة، والعربية عموماً. لكن الشيء الجديد – القديم، والمختلف عن السابق، أن هذه الإدارة تراهن، ليس على تقدم العملية السياسية من خلال مفاوضات، بل تريد أن توفر مظلة سياسية، يجري تحتها تثبيت المزيد من «حقائق» الأمر الواقع الإستعماري – الإستيطاني – التهويدي – الإحتلالي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، هذا من جهة. ومزيد من التطويع للقرار السياسي العربي المستجيب للترتيبات الإقليمية، التي تلبي إحتياجات السياسة الأميركية والإسرائيلية وأولوياتها، من جهة ثانية.

كما أن الإدارة الأميركية قد لا تطمح الآن، لأن ينفتح الصدر الفلسطيني قبولاً بمشاريع من هذا القبيل، بل هي تدرك جيداً أنه ليس بمقدور أي مسئول فلسطيني أن يتعاطى مع أي من هذه المقترحات، لذلك فهي تسعى إلى توفير – لإسرائيل طبعاً - سقفاً جديداً أعلى من أي مسئول وقت مضى، تحته يجري إستكمال العملية التهويدية والإستيطانية، وصولاً لضم مناطق واسعة من الأراضي الفلسطينية. ودليل آخر على ذلك هو إقحام إدارة ترامب لموضوع ترسيم الإعتراف بضم الجولان إلى الكيان الصهيوني. لقد أقحمت الإدارة الأميركية موضوع الجولان على «صفقة القرن» من أجل تبيان، لا بل تأكيد، كم هي جادة في تثبيت أقصى ما يمكن من الأمر الواقع، الإحتلالي – الإستيطاني – التهويدي، كمقدمة – مسلم بمفاعيلها – للمسار السياسي، وتحت سقف أوسع إعتراف دولي ممكن

 

(6)

الإنتفاضة تكتمل شروطاً

في مواجهة هذه السياسات، لا يقف الشعب الفلسطيني وقواه السياسية مكتوفي الأيدي، فهنالك إنتفاضة متجددة تتدحرج على موجات منذ شهر تشرين الأول (اكتوبر) 2015، أطلقت عليها تسمية إنتفاضة الشباب، ثم إنتفاضة السكاكين، الخ..، ثم إضرابات الأسرى والمعتقلين، ثم إنتفاضة القدس الأولى والثانية، ثم مسيرات العودة في غزة. كل هذه الفعاليات، المتوالية وقائعاً، منذ حوالي أربع سنوات، تؤشر إلى إنتفاضة تكتمل شروطاً على الأرض وفي الميدان، وعلى خطوط التماس، ومساحات الإشتباك المباشر مع الإحتلال الإسرائيلي، وآخرها ما جرى في العيساوية في القدس، والتي كان من شهدائها إبن فلسطين والجبهة الديمقراطية البار: محمد سمير عبيد، وما رافق تشييعه من مصادمات مع قوات الإحتلال.

نحن أمام تشكل إنتفاضة حقيقية بكل معنى الكلمة، لكنها تفتقر إلى برنامج ومركز قيادي موحد، وإلى التواصل والإستمرارية، وإلى غرفة عمليات سياسية وتنظيمية تدير تكتيكاتها بالشكل الذي يؤدي إلى تحقيق أقصى ما يمكن من نتائج سياسية. ويُعزى هذا الخلل إلى الإنقسام في الحالة الفلسطينية منذ حوالي 12 سنة، وهو إنقسام سياسي وبرنامجي ومؤسسي وجغرافي. وعندما تسود حالة الإنقسام العلاقات الداخلية – البينية الفلسطينية، فمن الطبيعي أن تعكس نفسها سلباً على كل النضالات الشعبية الفلسطينية، وعلى أشكال المقاومة. هي لا تلغيها، كما لا تستطيع أن تلجمها أو تكبحها أو تنحدر بمستواها؛ لكنها تعطل الإرتقاء بها إلى المستوى الذي يراكم وقائع، يمكن من خلالها إرغام الإحتلال الإسرائيلي على البدء بالتسليم للحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني.

حين نتحدث عن الإنقسام، لا نتجاهل في الوقت نفسه الإجماع الوطني الفلسطيني على رفض صفقة ترامب، ومخرجات ورشة البحرين، والمشروع الأميركي – الإسرائيلي لتصفية المسألة الوطنية الفلسطينية، لإقامة مشروع إسرائيل الكبرى؛ أي أنه بدأت تتشكل معالم توافق فلسطيني واقعي، جرى التعبير عنه في بعض المحطات الكبرى، منها على سبيل المثال الموقف السياسي الفلسطيني الرسمي ضد تسويق قرار الإدارة الأمريكية، التي سعت فيه إلى الأمم المتحدة في 26/12/2018 لإصدار قرار يَصِمْ مقاومة حماس، والمقاومة الفلسطينية عموماً، بالإرهاب.

ثمة محطات مضيئة في العلاقات الداخلية ما بين الفصائلية، لكنها ليست كافية لإطلاق دينامية تجاوز الإنقسام واستعادة الوحدة الداخلية. ومع ذلك، علينا الإفادة من الفرصة التاريخية المتمثلة بانتقال خطة صفقة القرن إلى نقاط متقدمة، بالتطبيق، كما وبالإعلان عن أهدافها، واستغلال هذا الظرف بما أنتجه من وحدة موقف في الحالة الفلسطينية واستثماره بتعزيز الحوار الداخلي في مختلف دوائره، وبالذات في مستواه القيادي الأول، من أجل تجاوز الإنقسام، وبالتالي الإقدام على خطوات عملية ملموسة، تؤدي إلى إستعادة الوحدة الداخلية المفقودة.

هذه قضية بمنتهى الأهمية، تحتاج إلى إرادة سياسية فلسطينية على مستوى طرفي الإنقسام أولاً، فتح وحماس. كما تحتاج إلى تفعيل الطاقات الفلسطينية على المستوى الشعبي والمؤسسي، من أجل بناء معادلة تساعد من يريد أو من يملك الإرادة السياسية لاستعادة الوحدة المفقودة، وترغم من يرفض ذلك، حتى الآن، على السير في هذا المسار.

إن الظرف الفلسطيني متاح – إذا أجدنا الإفادة منه - لكي نُقدم على خطوات من هذا القبيل

 

15/7/2019

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.