اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

اشكروا الشيوعيين!// صائب خليل

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

الموقع الفرعي للكاتب

اشكروا الشيوعيين!

صائب خليل

31 آذار 2017

 

أتيح لي قبل بضعة سنوات أن احضر مؤتمراً في بروكسل يهدف الى جمع التبرعات لمولدافيا. كان مؤتمراً كبيرا بكل القياسات، حيث حضره عدد كبير من قادة ذلك البلد، إضافة إلى معظم سفراء الدول الغربية فيه، واستغرق المؤتمر يوماً كاملا اختتم بحفل عشاء في مطعم جميل.

 صادفت جلستي على نفس طاولة وزير الزراعة المولدافي والسفير البريطاني في مولدافيا في ذلك الوقت وشخصيات أخرى. رحب بنا الوزير "فاليريو كوزارتشك" ودار حديث "ودي" بين الحاضرين، فهمت من خلاله "سرّ" هذا المؤتمر!

 لـ "مولدافيا" أو كما تسمى اليوم "مولدوفا"، تاريخ "شرس" لا يتناسب مع حجم هذا البلد الصغير، حيث كان جزءاً من الإمبراطورية العثمانية وتنقل بين الاستقلال والسلطة الروسية والرومانية والسوفيتية، التي بقي جزءاً منها بشكل جمهورية ذات حكم ذاتي حتى استقلاله بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، ومن الطبيعي أن ذلك التاريخ لم يكن بدون سفك الكثير من الدماء والدموع.   أما "سر المؤتمر" فهو ان المولدافيين كانوا قد انتخبوا على ما يبدو، وبعد تجارب وتمحيص، حكومة شيوعية! وطبيعي فليس هذا هو المنتظر من قبل الغرب الذي جاءهم بـ "الديمقراطية"! فانتخاب حكومة شيوعية بعد كل تلك الجهود الغربية لتحطيم الشيوعية في بلادهم، يعد، ليس فقط نكران للجميل، بل جريمة لا تغتفر! لذلك قامت اميركا، كما في العديد من الحالات المماثلة بـ "مساعدة" الشعب على القيام بـ "ثورة ملونة" للانقلاب على الحكومة التي انتخبها. ومن المعروف أن "الثورات الملونة" قد اخترعت أصلاً لمثل هذه الحالات لإجبار شعوب أوروبا الشرقية على اختيار النظام الليبرالي، إن لم يختاروه بنفسهم. وليس "الربيع العربي" إلا امتداد لتلك التجربة بأهداف أخرى اشد تدميراً، بفعل العامل الإسرائيلي.

 

 كان الحديث على الطاولة حول فساد الحكومة الشيوعية التي تمت إزاحتها بالتظاهرات والإضرابات، وكيف جاءوا بحكومة ليبرالية بدلا منها، والتي يتم جمع الأموال لها بهذه الفعالية. وتحدث الوزير عن مساوئ الشيوعية وحسنات الاقتصاد الحر كثيراً، وعن نيات حكومته وخططها. سألته عم سيفعلون بالأموال التي يحصلون عليها، فانطلق يتحدث عن بناء المدارس وتطوير التعليم وبناء الطرق والمصانع مؤسسات الرياضة والشباب الخ. وحينها وجدت فرصة للمشاغبة، فسألته: "لكن ما فرق هذا عن الاقتصاد المخطط، او الشيوعي؟". سكت قليلا للمفاجأة فأكملت: "ألا يفترض بكم كليبراليين، أن لا تتدخلوا في الاقتصاد، وتتركوا الأمر لحرية السوق، لتبني المدارس إن كان السوق بحاجة لها وكان لدى الطلاب الأموال اللازمة لها، وتتركوا المعامل للقطاع الخاص يبنيها وكذلك خدمات النقل والصحة وغيرها؟"

 

 شعر الرجل انه تورط. فهو لا يستطيع ان ينفي الحقيقة المبدئية لليبرالية التي يفاخر بها من جهة، ولا يستطيع ان يقول إنهم سيقدمون الأموال المستحصلة من التبرعات، إلى الأثرياء والقطاع الخاص وتأمين البنية التحتية للشركات، وهو الذي يحدث دائما في مثل هذه الحالات! لذلك فضل ان يكون الجواب مبهما ومكوناً من جمل غير مترابطة، وأنا اكتفيت بهذا ولم الح في مشاغبتي أكثر. تركته بدلا من ذلك يحدثني عن فساد الحكومة السابقة وأنا اهز رأسي موافقا..

 

 ثم جاءت ساعة الصدق، وبدأت الدول تعلن تبرعاتها! وجاءت التبرعات "كريمة" ومدهشة! لقد كان هناك ضغط امريكي واضح. فالتحدي أمامهم هو المقارنة القادمة حتما بين حكم الشيوعيين الذي تم اسقاطه، والرأسماليين القادمين على قطار الثورة الملونة. ويجب ان يرى شعب البلاد، وبأي ثمن، ان الرأسمالية هي الأفضل. ولتحقيق ذلك لا يكفي ان تحاصر الحكومة الشيوعية اقتصادياً وإنما أيضا أن تعزز الحكومة البديلة بالدعم المادي الضروري لكسب السباق. وهكذا كان، حتى أني أذكر أن رومانيا التي يفتقر شعبها الى الخدمات الأساسية في كل شيء، تبرعت بـ 100 مليون دولار!

 في الختام حصلت مولدوفا على ثلاثة مليارات دولار! وهو مبلغ هائل بالنسبة إلى دولة صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها ثلاثة ملايين. فهو يعني لكل شخص ألف دولار، ويمكننا ان نحسب كم تحصل كل عائلة إذن، لو تم توزيع المبلغ عليهم. لكن من المؤكد أن تلك العوائل لم تحصل على قرش واحد من تلك المنح.

 

 كان صاحبي الوزير وجماعته يطيرون فرحاً بالمبلغ. وحين سألته كيف كان المؤتمر، وهل أنتم راضين عن النتائج؟ قال ان الجميع سعيد جدا بها وإنها كانت فوق المتوقع بكثير، ثم سألني: وانت ما رأيك بالمؤتمر، وما رأيك بخطاب الختام الذي القاه الرئيس؟ قلت له:

 - جيد، لكنكم شكرتم الجميع، إلا جهة واحدة نسيتم ان تشكروها، رغم ان لها الفضل الأول فيما حصلتم عليه!

 امتقع وجه الرجل وزالت اسارير وجهه، وبدا عليه أنه خشي ان وفدهم قد ارتكب خطأً دبلوماسياً فاحشاً، وسألني بسرعة:

- من هي الجهة التي نسينا ان نشكرها؟

- الشيوعيون المولدافيين!

وهنا تحولت قسماته الى الغضب والانزعاج، كأنه سمع إهانة، وقال:

- ولماذا نشكرهم؟؟؟

ابتسمت واجبته بهدوء:

- لأنه لولاهم... هل تتخيل ان هناك من يعطيكم دولاراً واحداً؟

 انفجر الرجل بضحكة قوية سارع الى كبتها بصعوبة، وهو يحاول ان لا يراه أحد. وبعد أن سيطر على نفسه وهدأ، دارت بيننا مناقشة فيما يلي فحواها الذي لم اعد اذكر كلماته بدقة.. قلت له:

 - لا تنزعج من ذلك كل هؤلاء الأوروبيين الغربيين فعلوا الخطأ نفسه ولم يشكروا شيوعييهم، رغم ان كل ما وصلوا إليه من رفاه يعود إليهم.

 - تقصد ان مشروع مارشال كان لنفس السبب؟ لردع الناس عن الشيوعيين؟ نعم، ربما أفهم فكرتك..

 - ليس فقط مشروع مارشال. شيوعيو أي بلد، كانوا ورقته الضاغطة للحصول على افضليات، حتى حين لا يحكم الشيوعيين. السياسة الاقتصادية العامة التي صممتها اميركا لعالمها الغربي، كلها كانت تحسباً لـ "الخطر الشيوعي" وفعلت ما بوسعها لتظهر عالمها بصورة أفضل منه. فلولا الشيوعيون لما تحولت الرأسمالية الى الشكل الكينزي الذي أنتج دولة الرفاه الاجتماعي التي نراها في اوروبا الغربية، ولا حتى الحريات السياسية التي تمتعت بها.

- انت تبالغ.. كانوا يريدون اقتصادا نشطا ومستقراً..

 - ولماذا لا يريدون هذا الاقتصاد "النشط المستقر" الآن بعد ان زالت الشيوعية؟ إنهم يهاجمون اليوم، ومن خلال الأحزاب القريبة لأميركا في اوروبا، كل منجز اقتصادي اجتماعي ويسعون لإلغائه وإطلاق حرية السوق، وإحلال "الرأسمالية المتوحشة" بدلا من الكينزية!

 - ربما معك حق في، ولكن الحرية السياسية.. هل تعتقد حقا أنها هي ايضاً بفضل الشيوعيين؟

 - اسمع، انت تعرف ان ديغول كان شديد الكره لأميركا، فكيف سمحوا له ان يحكم، وهم الذين "حررت" جيوشهم فرنسا في نهاية الحرب الثانية، وكانوا قادرين على وضع من يريدون على رأس السلطة، بتهديدات الجوع والإعلام وتزوير الانتخابات إن تطلب الأمر، تماما كما حدث في إيطاليا واليونان وغيرهما؟

- (صمت)

 - ... لأنهم أدركوا ان الشيوعيين في فرنسا كانوا من القوة بحيث لا يمكن ان يغلبهم أي من عملائهم، وأنه لا امل لهم بهزيمة الشيوعيين إلا بشعبية البطل القومي ديغول! كانوا بين خيار الشيوعيين وديغول، فاختاروا اقل الطرفين سوءاً بالنسبة لهم! وبالنسبة للفرنسيين تمكنوا من انتخاب بطلهم القومي بحرية بفضل خوف الأمريكان من الشيوعيين!

 - ... صمت قليلاً ثم قال – لأول مرة اشعر ان للشيوعيين فائدة.. (ثم أضاف مع ابتسامة خبيثة) – هل تستفيدون أنتم أيضا من شيوعييكم بنفس الطريقة؟

 - (ابتسمت وقلت) للأسف لا.. لقد قطع حزبنا الشيوعي الطريق علينا بتحالفه مباشرة مع جماعات أميركا وإسرائيل، فلم يعد يمثل تهديداً يخشاه الأمريكان، ولم يعد ورقة ضغط لنستفيد منها..

- (ابتسم..) لن تستطيعوا أن تشكروا الشيوعيين إذن؟

 - لا .. لن نستطيع ذلك... للأسف!

 

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.