اخر الاخبار:
اخبار المديرية العامة للدراسة السريانية - الأربعاء, 24 نيسان/أبريل 2024 18:10
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

العراق وتركيا وملف المياه المشتركة: الشراكة المتكافئة مقابل أوهاوم القوة العظمى (3) // د. حسن الجنابي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

العراق وتركيا وملف المياه المشتركة:

 الشراكة المتكافئة مقابل أوهاوم القوة العظمى (3)

 د. حسن الجنابي

ـ خبير في الموارد المائية وسفير العراق لدى منظمة الفاو

اولا:

ان اهم شرط لنجاح المفاوضات المائية هو عقدها بين شركاء متساوين وحريصين على التوصل الى ادارة مستديمة للموارد المائية المشتركة. وبالمقابل فان اهم عائق امام الاتفاق التفاوضي هو شعور دولة المنبع بأن موقعها الجغرافي يمنحها سطوة وقوة اضافيتين تمكّناها من اخضاع دولة المصب لشروطها. وقد اظهرت غالبية الخصومات حول الانهار الدولية هذه النزعة، الا ما ندر، وان لم تتوفر رغبة التوصل الى اتفاق نهائي لدى جميع الاطراف، فان المزيد من التفاوض لا طائل منه. وقد بينت العديد من التجارب للاسف ان عدم التوصل الى اتفاق يرضي الطرف الاقوى، فانه لايأبه لاستمرار المفاوضات الى ما لانهاية، ان كان ثمة مفاوضات، او لاعادة النظر بما اتفق عليه، في حال وجود اتفاقيات دولية سابقة عقدت في ظروف مختلفة، او لا يرغب بالشروع بالتفاوض اصلا قبل احكام السيطرة شبه التامة على منابع المياه.

ثانيا:

لقد اشرت سابقا الى ان "الخلافات" او "الخصومة" المائية هي فعل مستمر بسبب حركية الموضوع. فالمياه عنصر متحرك زمنيا وجغرافيا، ويخضع لتقلبات الطقس والتغيرات او الاحتياجات الموسمية، الى جانب الاحترار المناخي وتأثيراته غير المعروفة تماما بعد، وغير ذلك. فالمياه تحدث في الطبيعة بصور متناقضة، بل ومتطرفة من الفيضان المدمر الى الجفاف القاتل، والشيء الوحيد المعروف عنها هو تاريخ وحجم حدوثها في الماضي، اي عبر الملاحظات والقياسات والمسوحات والمراقبة والسجلات والتوثيق. فالماضي في الميدان المائي هو حالة اليقين، اما المستقبل فهو حالة اللايقين، حيث ان الوسيلة الوحيدة لمعرفة ما قد يحصل مستقبلا هو التنبؤ عبر المعادلات الرياضية والنماذج الرقمية المستندة هي الاخرى على توثيق احداث الماضي، وادخال جملة من الافتراضات للتنبؤ بالمستقبل وفق سيناريوهات متعددة، بغرض تطوير سياسات مائية مناسبة للسيناريوهات الاكثر احتمالا. ولذلك فان ديمومة الاتفاقية المائية تقاس بمدى استجابتها لهذا المعطى الواقعي، اي بقدر ابتعادها عن الحلول الميكانية والارقام الجامدة، بل بالاستناد الى حلول مرنة، عادلة وديناميكية يمكن تطبيقها في مختلف الظروف.

 

ثالثا:

في حالة نهري دجلة والفرات، فان التفاهم الاولي لعام 1946 بين العراق وتركيا لم يجد متسعا من الوقت لتنفيذه، كما فشلت اللجان الفنية المشتركة التي شكلت لاحقا في التوصل الى نتائج مقبولة، بسبب تعقيدات وافرازات الحرب الباردة، ثم جاء العائق الاعظم عندما شرعت تركيا بتنفيذ مشروعها الاكبر (غاب) الذي سعت به، من بين اهداف اخرى، للسيطرة المطلقة على جريان الرافدين، وتحقيق فكرة القوة المائية الكبرى في الشرق الاوسط، وخلق واقع جديد على الارض لايمكن تجاوزه او القفز عليه.وبالفعل اصبح بامكان دولة المنبع التحكم الكامل بجريان نهر الفرات منذ عام 1990، وهي السنة التي اكتمل بها بناء سد اتاتورك، وسيكون بامكانها خلال السنوات المقبلة التحكم شبه المطلق بجريان نهر دجلة بعد الانتهاء من تشييد سد اليسو،الا في حالات الفيضان الكبرى. وقد كان معروفا لأي متابع للملف المائي بين العراق وتركيا وسوريا، ومنذ الثمانينيات، انه لم توجد، ولن توجد، اية فرصة للتوصل الى اتفاقية نهائية لقسمة المياه المشتركة قبل عام 2015، وهي السنة التي خُطّط ان يكتمل بها مشروع (غاب)، وحيث سيكون الوضع التفاوضي لدولة المنبع بعد ذلك التاريخ مريحا جدا، اذ يتحرر المفاوض من ضغوطات الزمن وحراجة الموقف، بل من السعي للبحث عن بدائل مرضية لجميع الاطراف، لانه يتحكم بجريان الانهار.

ثالثا:

لقد انفقت تركيا على مشروع "غاب" مايقرب من ثلاثين مليار دولار، وهو مبلغ ضخم ينفق على مشروع استصلاح اراضي وارواء في بلد من بلدان العالم الثالث (واقعا لاتستطيع حكومة اي بلد من البلدان الديمقراطية المتقدمة الحصول على تفويض لانفاق مبلغ كهذا على مشاريع مشابهة)، لذلك فقد خلق المشروع ردود افعال سلبية من الدول الدائنة والوكالات الدولية.

فقد انسحب البنك الدولي من تمويل سد اتاتورك وانسحبت المانيا والنمسا وسويسرا من تغطية تأمين القروض المخصصة لسد اليسو من قبل مصارفها ووكالاتها المالية، وشهدت وتشهد تركيا عزلة دولية في المنتديات الدولية المعنية بالمياه، وآخرها المنتدى السادس للمجلس الدولي للمياه في مرسيليا الفرنسية، بالرغم من نجاحها في عقد المنتدى الخامس في اسطنبول. كما سبق ان صوتت تركيا الى جانب دولتين فقط بالضد من اتفاقية الامم المتحدة لاستخدام المجاري المائية الدولية للاغراض غير الملاحية لعام 1997 مقابل اكثر من مئة دولة مؤيدة للاتفاقية، وهناك شواهد عديدة لاطائل من الاسهاب بسردها. لكن ما هو مؤكد فان الاهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتوخاة من مشروع "غاب" لم تؤت ثمارها بعد، وباعتقادي انها لن تتحقق بالكيفية التي تخيلها مهندسو المشروع في النصف الثاني من القرن العشرين، لأن العالم قد تغير كثيرا،واظهرت المعرفة والتجربة البشرية ان البيئة هي كائن حي، وان النهر هو تكوين واحد من المنبع الى المصب ولايصح العبث بطبيعته الا بالحدود الدنيا التي تتطلبها التنمية المستدامة.

رابعا:

ان تركيا دولة جارة وصديقة يشترك العراق معها بوشائج كبيرة ومنها النهران العظيمان، ولا يصحّ الا ان يتمنى المرء نجاح خططها التي تعود بالنفع على المنطقة.

وبالمنطق نفسه تتطلب الصداقة الحقيقية ان يكون المرء صريحا، وهنا يفترض القول ان كلفة انشاء مشروع الغاب على العراق اكبر بكثير من كلفته على تركيا، مع فارق ان تركيا تسعى للانتفاع من المليارات التي انفقتها بعد اكتمال المشروع كعائدات وايرادات مادية واجتماعية،لكن العراق سيبقى يدفع فاتورته الى ما لانهاية، بصورة التدني بالايرادات المائية ونقص في الطاقة الكهرومائية من سد حديثة، والاختفاء التدريجي لبحيرتي الحبانية والرزازة، وتدهور البيئة ونقص انتاجية الارض وانتشار التصحر، وانحدار نوعية وكمية الثروة السمكية، وانكماش المساحات الخضر، ومخاطر تقلص وجفاف الاهوار، والهجرة من الارياف، والقضاء على التنوع البيولوجي، وتهديد السلم الاهلي، فضلا عما يمكن اعتباره مساسا بالسيادة الوطنية، لأن سيادة دولة المنبع على المياه التي تنبع من اراضيها مكافئة قانونا لسيادة دولة المصب على المياه الواردة الى اراضيها، وغير ذلك. وما لم يتم احصاء الاضرار والعمل على تعويضها بصيغة مقبولة، يكون الاتفاق حول قسمة او ادارة المياه المشتركة ناقصا.

خامسا:

القضية الاكثر اثارة، والتي هي بحاجة الى تحليل عميق وموقف جدّي، باعتبار بلدنا هو بلد المصب، هي ان مياه الرافدين وروافدهما اصبحت تصدّر الى العراق على شكل بضاعة ومنتجات زراعية. فالعراق يستورد منتجات زراعية كثيرة من دول الجوار التي تسيطر على منابع المياه، الى حد اغراق السوق العراقية بها احيانا، وبحيث تفقد معه المنتجات الزراعية العراقية قدرتها على الصمود في السوق نتيجة لضعف امكانياتها التنافسية، مما يتسبب بالمزيد من الخسائر والافقار لفئات شعبية كبيرة،وخاصة فقراء الفلاحين وسكان الريف.

واذا كانت هذه البضاعة المستوردة، تُنتج في مساحات مستصلحة حديثا في دول الجوار باستخدام مياه الرافدين (التي كانت برمتها مياها عراقية قبل بناء السدود) فان الامر بحاجة الى وقفة مراجعة واجراءات حاسمة تضمن حقوق العراق. فالجوار الجغرافي يحجز ويستخدم المياه الطبيعية الجارية التي كانت تدخل العراق منذ الازل بدون عوائق، ثم يصدّرها للعراق على شكل مياه افتراضية لانها استخدمت في سقي وانتاج المزروعات التي تملأ سوق الغذاء في العراق، وهذا يخلق بالطبع مشكلات اجتماعية واقتصادية وبيئية، ويجب ان تؤخذ هذه القضية بالاعتبار، الى جانب الاضرار المباشرة الاخرى التي ذكرت في الفقرة السابقة، في اي مفاوضات لقسمة مياه الرافدين المشتركة.

 

(يتبع)

 

 

 

 

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.