اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

أوراق الخريف- رواية: الفصل الثاني// د. آدم عربي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. آدم عربي

 

عرض صفحة الكاتب 

أوراق الخريف- رواية: الفصل الثاني

د. آدم عربي

 

في صباح باكر، حيث لم تزل نسمات الفجر الباردة تداعب أوراق الشجر المتثاقلة بالندى، وقفت سيدة في طابور طويل أمام مقهى شهير. كانت تتطلع إلى الأمام بنظرات متلهفة، تتابع عقارب الساعة التي تدور ببطء شديد، وكأنها تتحدى صبرها.

فجأة، لفت انتباهها شخص يقف أمامها مباشرة، يرتدي معطفًا طويلًا وقبعة مُسدلة تخفي معالم وجهه. بدا هادئًا ومنفصلًا عن ضجيج العالم من حوله، وكأنه يعيش في سلام داخلي لا يُعكره شيء.

"تفضلي، يمكنك أخذ مكاني." قال الرجل بصوت خافت ولكن واثق، مُشيرًا إلى السيدة بإيماءة كريمة.

نظرت إليه السيدة بدهشة، غير مصدقة لهذا العرض غير المتوقع. "لكن لماذا؟" سألت بصوت متردد.

ابتسم الرجل ابتسامة خفية وأجاب، "أحيانًا، القليل من اللطف يمكن أن يُضيء يوم شخص ما، كما يُضيء القمر الليل الحالك."

وبهذه الكلمات، ترك لها مكانه وغادر، تاركًا وراءه أثرًا من الحيرة والتساؤلات. وقفت السيدة للحظة، تفكر في ما حدث، ثم تقدمت بخطوات مترددة نحو الأمام، وهي تتأمل في معنى كلمات الرجل .

بعد أن ترك لها مكانه في الطابور، توجه أحمد نحو النافذة حيث استلم قهوته المعتادة - كوبًا دافئًا من الإسبريسو الغني برائحته النفاذة. وجد لنفسه زاوية هادئة في المقهى، حيث الضوء الخافت يكسره خيط من أشعة الشمس الذهبية التي تتسلل من بين الستائر. جلس هناك، يتأمل الحياة التي تدب حوله، وكأنه يبحث عن إجابات في تلك اللحظات الصغيرة من السكون.

جينا، التي لم تستطع أن تنسى لطفه الغامض، حملت كوب قهوتها بين يديها وتقدمت نحوه بخطوات مترددة. "شكرًا لك على ما فعلت من أجلي،" قالت بصوت يملؤه الامتنان والفضول. "أنا جينا."

رفع أحمد نظره إليها، وابتسم بتواضع. "لا شكر على واجب،" أجاب بنبرة مطمئنة. "أنا أحمد."

"هل تأتي إلى هنا كثيرًا؟' سألت جينا، وهي تحاول أن تجد موضوعًا للحديث.

"بين الحين والآخر،" قال أحمد، وهو يضع كوب القهوة جانبًا. "إنه مكان جيد للتفكير والتأمل."

تبادلا أطراف الحديث، ومع كل كلمة، بدأت جينا ترى في أحمد شخصًا أعمق من مجرد شخص عابر. كانت هناك حكمة في عينيه، وسلام في صوته، كأنه يعرف أسرار الحياة التي لم تكن لتخطر ببالها.

وهكذا، في ذلك الصباح الباكر، بينما كان العالم يستيقظ تدريجيًا، وُلدت صداقة جديدة في ركن هادئ من مقهى صغير، حيث القهوة ليست سوى مقدمة لقصص الحياة التي تُروى.

باتت جينا تزور المقهى يوميًا، تحمل في قلبها أملًا خفيًا بلقاء ذلك الرجل الذي أثار فضولها وإعجابها. كانت تجلس على الطاولة نفسها، تتأمل الأبواب كلما فُتحت، علّه يظهر مجددًا. وفي أحد الأيام، حينما كانت الشمس تنثر أشعتها الذهبية عبر النافذة، دخل أحمد المقهى.

تبادلت معه النظرات، وكأن قدرًا ما قد جمعهما مرة أخرى. اقتربت منه بخطوات واثقة هذه المرة، ومدت يدها معرفةً بنفسها، "أنا جينا، لقد التقينا من قبل."

ابتسم أحمد وقال، "نعم، أتذكر ذلك جيدًا. أنا أحمد، أعمل في شركة نظافة في هذه المدينة."

"وأنا مديرة في شركة مهمة هنا في المدينة أيضاً،" أضافت جينا، وهي تطلب إذناً بالجلوس ، بالطبع أجاب أحمد وهو يرتشف قهوته ، وأردف أحمد قائلاً : شركة مهمة ، لا بد أن تكون سيرز !

جينا : كيف عرفت؟

أحمد : ألم أقل لك أنني عامل نظافة ؟ وسيرز من الشركات التي ننظفها ، طبعاً التنظيف كما تعلمين يكون في عطلة الاسبوع حيث تكون الشركة فارغة.

جينا : لا بد أن تكون شركة كلينرز ، فهي الشركة المتعاقدين معها ، هزَّ أحمد رأسه موافقاً ، وقال : أتمنى أن يعجبكم تنظيفنا ، طبعاَ ،أجابت جينا ، فنحن غيرنا عدة شركات قبل أن نستقر على شركتكم

جلسا معًا، وبينما كانت القهوة تفوح برائحتها الزكية، قالت جينا : إنها صدفة ، ولكنها، صدفة سعيدة للتعرف عليك ، ولكن ، قل لي : هل أنت مرتاح في عملك ؟ أجاب أحمد ، ما دمت أجد وقتاً للمارسة هوايتي المفضلة ، فأنا مرتاح ، أبدأ عملي الساعة السابعة وأنهي الساعة الثالثة ، وبذلك لدي مُتسع من الوقت لممارسة هوايتي ، ما هي هوايتك؟ سألتْ جينا أحمد ، أجاب ، القراءة

جينا : إنها هواية عظيمة

أحمد : بالنسبة لي طريق لفهم هذا العالم

جينا : وهل فهمته؟

أحمد : أُحاول

جينا: المحاولة هي بداية الإدراك. ما هي أكثر الكتب تأثيرًا بالنسبة لك؟

أحمد: هناك العديد، لكن ‘البحث عن الزمن المفقود’ لمارسيل بروست كان له تأثير عميق ، يُظهر كيف أن الذكريات والتجارب تشكل وعينا.

جينا: مثير للاهتمام. أعتقد أن الكتب تمنحنا فرصة لعيش حيوات لم نختبرها.

أحمد: بالضبط، وهذا يعطينا فهمًا أعمق للإنسانية وتعقيداتها.

أحمد: وماذا عنك؟ ما هي هوايتك؟

جينا: أنا أستمتع بالموسيقى، خاصة العزف على العود، هناك شيء سحري في الألحان التي تنقل العواطف دون كلمات.

أحمد: هذا جميل ، الفنون تعبر عن ما لا يمكن للغة أن تصفه ،وكل فن يكشف عن جانب مختلف من الحقيقة.

جينا: أعتقد أن هذا اللقاء لم يكن مجرد صدفة ، ربما كانت الحياة تريد أن تُظهر لنا شيئًا.

أحمد: هو صدفة ، لكن الصدفة الخالية من الضرورة لا وجود لها

جينا : لم أفهم !

أحمد : حسناً ، ما حدث في المقهى كان مصادفة ، بمعنى أنه ليس حتمي الحدوث ، كما مثلا في تعاقب الليل والنهار بسبب دوران الأرض حول نفسها ، هنا تظهر الضرورة في الحدث ونتائجة ، أما ما حدث في المقهى معك ، فلا ينتمي إلى الضرورة التي ذكرت ، إنه يتبع المصادفة حيث الحدث ونتائجة من خارج الظاهرة

جينا : وكيف ترتبط الصدفة بالضرورة؟

أحمد : الضرورة هو الحدث ، لكن الصدفة أن أكون أنا

جينا: ماذا تقول؟ اضعتني!

أحمد: نأتي بمثال آخر ، فلربما أُسهّل عليك ، شقوط شباك من عمارة سكنية على رأس إنسان يمشي في الشارع وموت الإنسان هو ضرورة ، فسقوط شباك على رأس شخص غير محمي حتماً سيموت ، إنها الضرورة في صدفة الواقعة كلها ، لكن المصادفة أن أكون أنا مثلا

جينا : يبدو كلامك عميق جدا ، يحتاج للتفكير ، الوقت داهمنا ، أليس كذلك

أحمد : نعم أكيد

إلّا أنَّ جينا ختمت الحوار بنبرة ممتنة وفضولية:

جينا: أحمد، لقد كان لطفك في ذلك اليوم شيئًا لم أعتده. في ثقافتنا، نادرًا ما يعطي الناس أدوارهم في الطابور. هل هذا شائع في ثقافتك؟

أحمد: في الواقع، في ثقافتنا، يُعتبر الكرم والمساعدة جزءًا لا يتجزأ من التفاعل اليومي خاصة مساعدة النساء وكبار السن. إنها طريقة للتعبير عن الاحترام والتواصل مع الآخرين.

في مجتمعنا الشرقي المسلم ، نحن نساعد النساء وكبار السن بشكل خاص. إنها ثقافة الشرقيين .

جينا (بنبرة اعتراض): لكن هذا يبدو كما لو أن النساء بحاجة إلى المساعدة أكثر من الرجال. أنا أؤمن بالمساواة بين الجنسين ، وهل ساعدتني لأنني إمرأة؟

أحمد: أفهم وجهة نظرك، وأقدرها ، لكن في ثقافتنا، هذا ليس عن المساواة في القوة أو القدرة، بل هو تعبير عن حماية المرأة وللحكمة وللضعف البدني للكبار ، ومن منظور غربي فالمرأة الشرقية ما زالت لم تنل حريتها ، لكن هناك جوانب في صالحها ، رغم أنني من أكبر المدافعين عن حريتها ، ومع ذلك أنا لم أُساعدكِ لأنكِ إمرأة أو لأنني أنتمي لتلك الثقافة ، انها فلسفتي في الحياة وهي " ساعد منْ تقدر على مساعدته "، فلو كنتِ رجل لفعلت نفس الشيء ولما اختلف الأمر .

جينا : أعتقد أنني أفهم الآن ، إنها مسألة مبدأ، وأنا أقدر ذلك حقًا ، من الجيد أن يكون هناك أشخاص مثلك، الذين يعملون على نشر الخير بغض النظر عن الجنس أو الثقافة. شكرًا لك على جعلي أرى هذا من منظور مختلف.

أحمد : يا سيدتي ، إنها روعة الفكر الأممي الذي أحمله

جينا: أرى، وما الفكر الأممي؟

أحمد : أنا حصلت على شهادتي الجامعية الأولى من مدرسة الحياة ، هل تعني لك شيئاً؟

جينا : جامعية وأولى من مدرسة الحياة؟ أهذا لغز؟

أحمد : ليس بالضبط لغزًا، بل هي طريقة مجازية للقول إنني تعلمت أهم الدروس من تجارب الحياة نفسها، وليس فقط من الكتب والمحاضرات. الحياة مدرسة قاسية أحيانًا، لكنها فعالة جدًا.

جينا: إنها لفكرة رائعة ، لديكَ الكثير من تجارب الحياة ، وما أنتَ عليه الآن

أحمد: بالضبط، أنا مُؤمن بأن العطاء يعود علينا بالخير، وأن مشاركة اللحظات الصغيرة يمكن أن تجلب السعادة للآخرين.

جينا: أعتقد أن هناك الكثير الذي يمكننا الحديث عنه

أحمد : ليست ثقافتي وحدها، إنها الثقافة الأممية التي أحملها، إنها توازن مثير للاهتمام بين الفرد والمجتمع ، حتى أصبح المشردون يعرفونني لأني لا أردُّ طلب أحد لفافة تبغ مني

جينا : هزت رأسها موافقة دون تعقيب

أحمد : ليس هذا سبباَ ، لكنني أنا هكذا ..ثم ماذا فعلت؟ شيء بسيط

تبادل الاثنان الابتسامات وأرقام الهواتف ومضى كلّ إلى عمله.

يتبع في الفصل الثالث.....

 

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.