في مقهى سيدوري!- قصة// يوسف أبو الفوز
- تم إنشاءه بتاريخ الجمعة, 19 أيلول/سبتمبر 2025 11:27
- كتب بواسطة: يوسف أبو الفوز
- الزيارات: 211
يوسف أبو الفوز
في مقهى سيدوري!- قصة
يوسف أبو الفوز
حصل ما لم يتوقعه يوما، ولكن تمناه دائما، بكل جوارحه. اتجهت نحوه مباشرة، وإشراقة ابتسامتها الملائكية تسبقها إليه. شعر بالارتباك يغزو كل خلاياه. أيعقل ذلك؟ ان ابتسامتها ونظراتها تقولان هذا. يا رب السماء، انها تتجه نحوه. انها تقصده بهذه الابتسامة الحيّة وترمقه بنظرات المحبة. وإذ صارت على مقربة منه لفحه عطرها الفاغم. لم يقدر له في يوم ما، لا في أي زمان ومكان، شم مثل هذا العطر. شيء ما فوق الوصف، ربما من عطور الجنة. وقفت قبالته تماما. كان وجهها القمحي يفيض بالحياة. عيناها المعجونتان بتراب القهوة، تبسمان بمودة لم يألفها أبداً ... أبدا ً.
ـ مرحباً!
قالت ذلك. نعم قالت ذلك، ببساطة، وله تحديدا. ياااااااه، ما أجمل نبرة صوتها ووقع كلماتها. مع ذلك فغر فاه دهشة، غير مصدق أبداً ... أبداً. لم يستطع سوى التلفت جانبا ليتأكد، أحقا تقصده بتحيتها، هو بالذات وليس غيره؟ حدق مليا إلى عينيها. أي لون هذا؟ أهو لون القهوة المخلوطة بشفق الصباح؟ أم هو غرين الفرات تظلله سعفات النخيل؟ يوما، في لحظة صداقة وصفاء، قال له والده وهو يضغط على كفه بمحبة وقوة:
ــ تذكر يا ولدي دائماً، ان العين هي مفتاح روح الإنسان. حدق جيدا في عيني أي إنسان تقابله وتحادثه. لا تخش شيئا وستتعلم بسرعة. ستقودك عيون محدثك إلى معرفة إن كان صاحبها يحبك أو يكرهك أو يداهنك وغير ذلك. العيون فضّاحة دائما يا ولدي.
وإذ يلمح والده اقتراب والدته منهما، يرفع صوته عامدا، ويغمزه متآمرا، ويضيف وهو يفتعل السعال:
ـ اسأل أمك... كيف عرفت أني اعشقها؟ ببساطة فضحتني عيناي أمامها!
وتضحك أمه بجذل صادق، وعينيها تنطقان بروح الشباب الذي مضى، وتعلو صوتها، فجأة، نغمة دلع غريبة عنها:
ـ ليس وحدي الذي أكتشف ذلك، بل كل من عرفوا والدك، كانوا يقولون لي ان عينيه تلمعان حين يسمع أسمي.
العينان اللتان تحدقان به تفيضان محبة، عذوبة، حنانا وأملاً! أمل؟! هل قال الأمل؟ نعم قال ذلك تماما. وتماما، هذا هو اللون الذي تنطقان به وتعبران عنه، هاتان العينان اللتان تقابلانه. فمثل هاتين العينين لم يقابل وصفهما في أي من كتب الشعر التي أطلع عليها. لم ير مثيلا لهما في صفحة أي من الوجوه، الغريبة والقريبة، التي عرفها وعاشرها.
ـ مرحباً!
كررت تحيتها مرة ثانية، بذات الإيقاع الذي يسلب من الروح توازنها، ويجعلها تسيح مثل قطعة زيت على سطح معدن ساخن. زاد وجيب قلبه وهو يتأكد انها تقصده هو تحديدا:
ـ مراحب عيوني!
فلتت منه عبارته بتردد، لكن واضحة، بكل قوة الأمل، التي راحت تنمو في روحه مع رفة رموشها. شعر بالغضب لأنه أجابها بهذا الشكل الروتيني، المجرد. كان عليه اختيار عبارة اخرى، أكثر دفئا وشاعرية. ان يعصر دماغه ليستنجد بما قرأ من شعر ونثر وملاحم، وما سمع من موسيقى وأغان ليجد العبارة اللائقة والمناسبة. أمام ذهوله من اقترابها المفاجئ منه، وسطوة ابتسامتها، وعذوبة صوتها، لم يجد غير عبارة عادية تردد يوميا، ومن قبل كل الناس، في كل مكان. شُدِهَ بها من اللحظة التي لمحها فيها تخطر بزيها السومري، الطويل الفضفاض الذي يكشف عن كتفها الأيسر، المنحوت ببراعة إلهية. هل كان لون الفستان أبيضا؟ لا ... أبداً، انه شيء آخر. لون لا وجود له في عالم الألوان. شيء مثل السحر! السحر؟! هل قال السحر؟ نعم، السحر، هذه هي الكلمة المناسبة لكل شيء له علاقة بها، ويصدر عنها!
ـ أيمكن لك مساعدتي؟
إذ سمع سؤالها، شعر بساقيه تخذلانه ويكاد يهوي إلى الأرض. أيعقل هذا؟ هو الذي كان يتمنى ان يحظى ولو بمجرد نظرة عابرة منها، ها هي تأتيه بنفسها، وتكون بحاجة لمساعدته، وتطلب منه ذلك بكل لطف ورجاء؟!
بلع ريقه، شهق كالغريق، محاولا تفهم ما يجري. كررت سؤالها:
ـ قالوا بمقدورك مساعدتي؟
لكن لماذا هو بالذات وليس غيره؟ كيف قدر لها إختياره؟ من أين جاءت ومن أين ... وتنبه إلى المكان حيث يقف أمامها ذاهلا من مفاجأة تحيتها وسؤالها. انه مكان عام، ليس غريبا عليه. انه مقهى عام. مقهى على شاطئ نهر. أي نهر هذا؟ أهو نهر دجلة أم نهر الفرات؟ إن كان ذلك نهر الفرات، فهذا يعني انه في مقهى (علي زغير)، هناك حيث أعتاد طلاب ومعلمي ومثقفي مدينته الجنوبية اللقاء في تلك الأمسيات الصيفية البعيدة، ومع إستكانات الشاي و(الحامض نومي بصرة)، المعمولة على موقد الجمر، من يد الاسطة علي زغير، يتبادلون الكتب والأفكار وهموم ومفارقات أيامهم المكتظة بكل ما هو جديد، ويخوضون نقاشات بدون نهاية حول كل شيء. وإن كان المقهى عند نهر دجلة، فهذا يعني انه (مقهى السلام) في بغداد، في شارع (أبو نؤاس)، حيث اعتاد ان يكون مكان لقائه بأصدقائه ومعارفه في زياراته، بين الحين والأخر، إلى العاصمة. لكن ... كل العالم عرف أخبار العراق، لم تترك وسائل الاعلام الدولية شيئا لم تتحدث عنه، وعما فعله النظام الديكتاتوري الشوفيني المقبور، الذي تبخر فجأة رغم كل العنجهية والمزايدات الفارغة، واختفى رموزه مثل الجرذان، مع دخول قوات الغزو الأمريكية، تاركا خلفه البلاد تعج بالمقابر الجماعية، الثياب السود والحزن، القلق والفوضى والعمائم! طوال أكثر من ثلاث عقود صادر النظام الهمجي بهجة الحياة من أبناء العراق، وهكذا كان ضمن ما فعله ان غيّب الحياة من مقاهي كورنيش مدينته الجنوبية، بل وأزال شارع أبو نؤاس بكامله. لم يعد العراق كما كان أبدا، بعد ان صادر الديكتاتور الارعن ونظامه الدموي حتى نهري دجلة والفرات. فأين هو ألان؟ في أي زمان ومكان؟ أي مقهى هذا؟ وأنتبه إلى المقاعد من حوله. كاد ان يلطم جبينه بكفه. أيعقل ان ينسى هذا أيضا؟ إن كانت زوجته تسامحه باستمرار وتتفهم نسيانه الدائم، كيف يسامح نفسه ألان؟ إلا يمكن له التركيز قليلا قبل إطلاق الأسئلة ليربك نفسه قبل الآخرين؟ انه يقف في وسط مقهى سيدوري. مقهى سيدوري وليس غيره. وأي مقهى غير ذلك، تجد فيه كل هذا السحر؟! ها هو الحلم مرة أخرى يحمله إلى أحد الأمكنة المفضلة لديه. يا لسطوة الأحلام عليه. عوالم أحلامه التي لم تجلب له، سوى الاحتراق والوجع، واللوعة المترعة بالهواجس، وأيضا لسعات سياط الضحكات الساخرة التي تطلقها زوجته بين الحين والآخر، خصوصا حين تتحرك عندها دوافع نسائية ليست بخافية عليه. في البدء حاولت زوجته استقبال حكايات أحلامه بعدم الاكتراث، ومع مواصلته رواية كل ما يصادفه، صارت تصغي إليه بإهتمام شديد، وتستدعي فرويد ليكون إلى جانبها، وتحاول قراءة ما يقف خلف حكاية كل حلم. راحت زوجته بدلا من مشاركته بهجة أقواس قزح التي تنهمر عليه كل مرة في أحلامه، تسخر مما يرد في بعضها، وبذلك تعكر عليه صفو وهج أحلامه. أحلامه التي قادته إلى مواقف لا يمكن نسيانها. يا لشدة ضعفه أمام إغراءات الأحلام. غازل وراقص وقبّل، كذا من النساء اللواتي رغب بهن يوما ما في صباه، ووجد نفسه مرة، وبكل ثقة وبرود يصد عن لمس امرأة، رغم فتنة جمالها، إلا انها وإذ كانت متكبرة، متعجرفة مع الناس، وجد ان جسدها في حلمه مرصوفا من حجر كراهية خشن، لا يمنح أي حرارة أو وهج حب. وكلما روى شيئا من ذلك لزوجته، كانت أولا تبرطم مفكرة بتمهل، تقيس كلامه، ثم تبدأ بتسفيه أحلامه، مغالية في مزاحها:
ـ أتريدني ان اشعر بالغيرة من نساء أحلامك؟
هناك تمكن من مقابلة كل الشخصيات السياسية والثقافية، التي يرغب، وحاورها بحيوية وثقة عالية، بل وأفحم البعض منهم، لكنه يعترف بأنه لم يقو على محاججة كارل ماركس. نظر اليه بعمق، وشعر كأن عينيه تخترقان أعماقه وقال له بصوت عميق أتعبه السهر وهو يهرش ذقنه الغزيز الشعر:
ـ أرجوكم، حاولوا قراءتي بشكل صحيح، حتى تخف الشتائم من حولي التي يطلقها الـ ...!
كان مسرورا بهزيمة الديكتاتور صدام حسين السهلة أمامه. لم يستطع، رغم كل صلافته، الصمود طويلا امام حججه وهو يعرض لها سجل جرائمه، فغادر المكان بسرعة وهو ينفخ بقوة من منخريه، وكان إلى جانبه يسير هتلر متمهلا مثل تلميذ، يحاول تهدئته وخصلات شعره المائلة تتطاير. أما حواره مع شكسبير، فقد كان قمة المتعة، خصوصا حين التقيا، فجأة، أثناء تجوالهما عبر مرج اخضر، بأنطوان تشيخوف، الذي شاركهما الحوار بكل تواضع وهو يسعل ويضع منديلا على فمه، وإن أعربت تحيته وحركاته عن شعور ما بالغيرة، فمعرفته الجيدة بتشيخوف تعود إلى سني دراسته المتوسطة، لذلك لم يتوقع تشيخوف منه إنشداده إلى شكسبير بهذه السرعة حالما أنتقل الى دراسته الجامعية! والان، لا يمكن له أبدا نسيان ان هذه المقهى هي مقهى سيدوري، فمقاعدها الحجرية، تحمل بصمات أبرع نحاتي وفخاري أوروك، وكان مقعد إنانا المصنوع من شجرة "الحلبو"، التي أهداها إياها گلگامش موضوع في مكان عال، كالعرش المقدس، منفردا لا يقربه أحد. من زيارته الاولى التي جاء بها إلى المقهى، لفت انتباهه ذلك الإغراء الهائل الذي تحمله سيدوري وينبعث من كل حركاتها وسكناتها، الذي لم ينتبه له كل اللذين تحدثوا عنها، عند لقائها گلگامش وهو في طريقه للقاء أوتونابشتيم. كانت سيدوري وهي تتلقى طلبات زبائن المقهى وتوزع اقداح (شراب الشعير)، أو حين توجه فتيات المقهى لتلبية طلبات الزبائن، وهن يخطرن مثل فراشات ملونة، في كل مرة تظهر بزي مختلف، وتسريحة مغايرة، وكاد ان يصيح: أنحن في عرض لقناةFASHION TV التلفزيونية؟ في تلك اللحظات لمح گلگامش يصل المكان، متعبا، منهكا، وجهه أشعث، ذابل الوجنتين، حزينا، لباسه من الجلود، يحمل كل عدته الحربية بحزامه العريض، ويتوكأ على رمح طويل برأس نحاسي، وأنهد إلى أول مقعد وقد جللته الهيبة كرداء. لم ينتبه لگلگامش من الجالسين أحد سواه. توقع ظهور أنكيدو ايضا، لكنه تذكر ان مصيبة گلگامش بدأت بعد موت صديقه أنكيدو. ها هو اذن گلگامش، حاكم أوروك. گلگامش ابن الآلهة ننسون، الذي حملت به من ملك أوروك لوجال بندا، فجاء ثلثه إنسان وثلثاه إله. گلگامش الذي طغى وبغى في أوروك، قبل ان تسمع الآلهة شكوى الناس فخلقت أنكيدو ندا له ليلهي گلگامش عن البطش برعيته. فراحا معا يسجلان البطولات والمآثر، قتلا خمبابا حارس غابة الأرز، وصرعا الثور السماوي، فأثارا غضب الالهة، التي قررت موت أنكيدو، فجزع وفزع گلگامش. موت أنكيدو جعل گلگامش يفر هاربا باحثا عن سبيل للقاء أوتونابشتيم ليهديه إلى سر الخلود. محاولا فهم سر الكون والوجود. وها هو الذي يخبرنا طه باقر بأن معنى أسمه بالسومرية (الرجل الذي سينبت شجرة جديدة)، هاهو الذي رآى كل شئ، يصل هنا مواصلا البحث عن الطريق للقاء أوتونابشتيم. توجهت سيدوري إلى گلگامش باسمة، تتثنى بمشية القطة، تهز أعطافها بغنج، وقفت عنده وحادثته طويلا. كانت عيون گلگامش وهو يحادث سيدوري تلمع بشرر الأسئلة. وبعد ان أستقى وارتوى گلگامش من (شراب الشعير)، أراد النهوض ليواصل مسيره وسعيه، وجد نفسه فجأة يجري، وينادي گلگامش، الذي ألتفت إليه بكبرياء، أستمع إلى سؤاله بإهتمام واجابه بهدوء. وإذ سمع جواب گلگامش ظل لأيام يشعر بالغضب من زوجته، التي صاحت بلوعة والدموع تكاد تطفر من عينيها، مفجرة كل الغيض المتراكم في روحها:
ـ أتدري؟ يهمسون لي ان زوجك غريب الاطوار. أعتقد ان فيك شيئا من الجنون. بل اعتقد أنك مجنون حقا، ومن اجل ان تتأكد من ذلك اقترح عليك ان تعرض نفسك على طبيب مختص.
يعرف ان زوجته تظلمه بهذا القول. نعم، هو مجنون، يعرف ذلك جيدا، ومجنون تماما، ولكن ليس مثلما تظن زوجته. أصيب بالجنون من اليوم، الذي اضطر فيه لمغادرة بلاده، هربا من ضباع الموت في وطنه، اللذين سمموا حياة الناس، وبغوا وبطشوا في البلاد. هو مجنون يبحث عن السر الذي يساعد الناس في بلاده ليعيشوا في طمأنينة وأمان وسلام. انه مجنون بأمل رؤية الناس تعيش في سعادة وتكافل. ان يرى العراق ينهض من جديد وطنا حرا، بهيا للجميع. ان يسمع أغان تموز تصدح في كل جنبات البلاد. مجنون بحب أهله وأصدقاءه والناس الطيبين. مجنون بالتحديق بعيون زوجته العسلية الصافية، بالحياة، بالأمل، بأقواس قزح. مجنون بتاريخ بلاده وتراثه، أساطيره، انهاره، جباله، نخيله وأغانيه. هو مجنون بكل هذا، وان غضب وغيض زوجته منه لا يمكنه ان يبرئها من مسئوليتها عما جرى عند لقائه گلگامش:
ـ أنا لست مسؤولة إذا جاءت إجابة گلگامش عن سؤالك بهذا الشكل، ثم أيعنى هذا أنك ستطلقني مثلا لو أنك في حلم آخر ...
وغادر البيت يومها غاضبا، قبل إكمالها ما تريد قوله. كان واثقا انها هي السبب. ولولاها لما جاءت إجابة گلگامش له بهذا الشكل الذي جعله يشعر بالوجع لأيام. ومن غيرها كان السبب؟؟ كانت محفزا عمليا لجواب گلگامش!
في صباح ذلك اليوم، وهو يغادر إلى العمل، أخبرها بان نهاره سيكون ثقيلا، مليئا بالاجتماعات وتقارير العمل، ورجاها ان لا تهاتفه إلا عند الضرورة. ولكنها كررت مهاتفته مرتين. قفل يومها هاتفه النقال حتى يستغل كل دقيقة من وقته للعمل، ولكنها اختارت هاتف موقع العمل العام. وجد نفسه يقول لزوجته عبر الهاتف، ومن بين أسنانه:
ـ سأتصل بك بعد قليل!
وفي غمرة انشغاله نسي وعده لزوجته، فكررت اتصالها الهاتفي، وحاول التماسك وهو يسأل:
ـ ما هو الأمر الضروري الذي توجب الاتصال؟!
قالت له زوجته بمزاج رائق، وهو يكاد ينفجر غيضا:
ـ هل تستطيع في طريق عودتك ان تشتري لنا اليوم (رگي)، لان هناك إحتمالا ...
ــ ماذا تريدين أن اشتري؟!
ــ يسمونه البطيخ الأحمر يا حبيبي، الحبحب يا بعد روحي، الشامي يا شريك العمر، الدُّلَّاعُ يا ...
وأنهى المكالمة وزعل يومها من تصرف زوجته، التي أدركت كما يبدو خطأها، لذا لزمت الصمت ولم تحاججه كعادتها حين احتج على مكالمتها، لكن سبب غضبه الحقيقي منها، كونه حين التقى بگلگامش وصاح خلفه:
ـ إلى أين تمضي يا گلگامش؟
التفت اليه گلگامش تعبا، منهكا. سبقته سيدوري وسألت ذات السؤال:
ـ الى أين تمضي يا كلكاميش
ان الحياة التي تبحث عنها لن تجدها.
توقع ان يكون جواب گلگامش ذا بعد فلسفي. حكمة سومرية ما، متوارثة، يظل يرددها كلما دارت الأحاديث عن مغزى الحياة. شيء من صدى الملحمة، التي عكف على ترجمتها من الأكدية مباشرة ابن بابل، العلامة طه باقر، الذي رفض منصب وزير التربية الذي عرضه عليه الزعيم عبد الكريم قاسم، وأجابه (الآثار أهم من الوزارة)، فعيّنه مديراً عاماً للآثار حتى عام الانقلاب الدموي في 8 شباط 1963، حيث سجنوه بتهمة (حب الزعيم) فتحدى هيئات التحقيق ولم ينكر محبته وشغفه بالزعيم قاسم. يعرف الانقلابيون ان طه باقر لم يكن شيوعيا، لكنه قريب منهم، وتأثر بأفكارهم في الدعوة للعدالة الاجتماعية فهمشوه فاجبر على مغادرة وطنه للعمل في ليبيا حتى عام 1970.ان طه باقر الذي أُغرم بالملحمة العظيمة ونشر عام 1962 ترجمته لها وأخبرنا، بان گلگاميش تعلم في النهاية أن القيام بالأعمال الصالحة هي التي تخلد ذكر الفرد لدى الأجيال، وتجعل روحه تنال الراحة والطمأنينة في (العالم الأسفل) فبنى اسوار أوروك المحصنة واقام العدل فيها وعامل الشعب كأبنائه وبذل جهدا لتعليمهم لتكون للحياة معنى أفضل! وفي ذلك اليوم، الساحر، الفريد، التفت اليه گلگاميش، ليرد على سؤاله بكبرياء وابتسامة غامضة على وجهه:
ـ ذاهب لشراء الرگي ... البطيخ الأحمر... الحبحب... الشامي.. الدُّلَّاعُ ... الـ...
أيعقل هذا يا ناس؟ ان يحظى بلقاء جده گلگامش، بطله الاثير، الذي ومن أول أيام وصوله إلى منفاه شمال القطب، لم يترك أحدا إلا وصدعه بالحديث عنه:
ـ أنا حفيد گلگامش، أنا ابن أوروك، و ...
وأخيرا ها هو جده العظيم، يرده بسخرية مرة؟ ترى ماذا سيكون موقف طه باقر منه، لو عرف بذلك؟ ها هو وإذ يجد نفسه في مقهى سيدوري مرة آخرى، يقف بذلك الانبهار أمام سحر الأميرة السومرية، تختلط في روحه كل الأمنيات والأمل. انه جاهز لينفذ لها كل ما تريد. كل ما تطلبه. ان يعطيها روحه. أدرك اخيرا انه يقف في حضرة إنانا ذاتها. مرات عديدة كان يقف منبهرا أمام عرشها المقدس في المقهى. كان يتصور كيف ان الحية العملاقة وطائر الزو والشيطانة ليليث مجتمعين أغتصبوا شجرة الحلبو، وسكنوها وحرموا إنانا من الاقتراب منها، وهي التي بعد ان اقتلعت ريح الجنوب العاتية شجرة الحلبو، ورمتها إلى نهر الفرات، عثرت عليها طافية في النهر، فانشتلتها وحملتها إلى أوروك وزرعتها في حديقتها المقدسة، ورعتها لتكبر وتكون فتنة للناظرين. لكن المغتصبين سكنوها وحرموا إنانا من الاقتراب منها، مما اضطرها لطلب المساعدة من گلگامش، الذي صارعهم وقضى عليهم وقطع الشجرة، واهداها إلى إنانا التي صنعت منها كرسيا وسريرا. ومن باب رد الجميل لگلگامش بادرت إنانا، وصنعت من خشب الحلبو ايضا آلتين موسيقيتين اسمهما مكو وبكو وأهدتهما إلى گلگامش. كان يود لثم كف إنانا ليشكرها على صنائعها مع بلاده. كان يريد ان يسألها لتحكي له كيف استطاعت، ان تجعل أنكي إله الماء والحكمة، يستسلم لطلباتها ويمنحها نواميس الحضارة كلها، مرة واحدة، والتي منحتها لمدينة أوروك، حيث بدأت حضارة المدينة، وبدأت تترسخ هناك أولى تقاليد الحضارة العالمية؟! ها هي إنانا اخيرا تقف امامه بكل البهاء السومري، لتقول له وببساطة:
ـ قالوا لي ان بمقدورك مساعدتي؟
وقبل ان يتفوه بكلمة ويقول شيئا، اشارت إلى حجر منفرد، تتكسر عنده مويجات النهر:
ـ وودت الجلوس هناك، هل لي ان أحصل على شيء ما، حصيرة صغيرة مثلا، لأضعها حتى لا يبتل فستاني، فالحجر ندي كما ترى.
وشعت روحه فرحا، لأنه قادر على تنفيذ ذلك، نفخ صدره، رفع رأسه عاليا، وشد قامته، وقال لها:
ـ لحظات وسيكون عندك ما تريدين.
وتوجه مسرعا إلى داخل المقهى، و ... لكنه أفاق فجأة واستوى في فراشه، لحد ان زوجته أفاقت معه على نهوضه المفاجئ:
ـ ها... خير انشاء الله؟!
وسرعان ما دق منبه الساعة، وتركت زوجته سرير النوم، لتغتسل وتحضر الفطور، وتعد نفسها للخروج إلى عملها، وظل في فراشه قانطا، محبطا، يشعر بالألم يشك كالمسامير خلايا جسده، وليس لديه اي رغبة للنهوض وترك الفراش. كانت زوجته في كل لحظة تطل عليه، وتعاود السؤال:
ـ اتشكو شيئا يا حبيبي؟ إذا كنت متوعكا لا تذهب اليوم إلى العمل.
وكان بعيدا عن كل شيء. كان يشعر بالغضب من نفسه. لماذا أفاق من نومه فجأة، قبل تلبية طلب إنانا؟ أجبرته زوجته على ترك السرير، الاستحمام عله يتنشط قليلا وشاركها على مضض الفطور. كانت زوجته تمازحه وتشجعه مثل طفل، ثم دفعته دفعا إلى موقف الحافلة ليلحق بموعد عمله. هناك ظل ساهيا عن كل شيء. ظل جالسا إلى مكتبه، يعب أكواب القهوة المرّة، ويخربش على الاوراق امامه، موحيا للآخرين بأنه مشغول بأمر ما. لم يقترب منه أحد. مسؤولته المباشرة، طلبت منه تقريرا واقتراحات عن ممارسات عنصرية وتنمر واجهها بعض العاملين لديهم خلال تنفيذ مهام عملهم، وعدها بإنجازه بعد يومين. كان بعيدا عن كل شيء. كان الالم يعتصره. وسؤال وحيد يراوده، منذ استيقاظه:
ـ يا ترى هل تعاود إنانا زيارته مرة اخرى؟
ما ان اقتربت ساعات العمل، على النهاية، حتى خرج مسرعا. دار بين المحلات والاكشاك يبحث عن شيء محدد. أخيرا في محل يبيع تحف ومعدات قديمة، وجد ضالته. كانت تلبي المرام تماما. كانت صغيرة بحجم سجادة صلاة، ومضفورة بفن يشبه عمل أهل الاهوار، مصنوعة من حبال القش. توهجت بالدهشة، عيون العجوز، صاحبة المحل، من لهفته الشديدة لشراء تلك الحصيرة الصغيرة، والتي لفها بنفسه بعناية، رغم كونها لم تكن غالية الثمن. حين وصل البيت، ولتكون عند متناول يده، وضعها قريبا إلى سرير نومه، تماما عند مصباح القراءة، هناك حيث من أيام يرقد، بورق تهدلت حوافه من كثرة القراءة، كتاب (ملحمة گلگامش) ترجمة طه باقر. حين لاحظت زوجته إهتمامه بالحصيرة، لم تحاول سؤاله، لكنه قرأ ذلك في عينيها الجميلتين، وكانتا ذلك اليوم تشعان بالحنان والتضامن والتفهم. فبادر وقال لها:
ـ حتى لا أنسى.
وقرأ الاقتناع في عيني زوجته، ربما لكثرة ما عانت من نسيانه الطبيعي أو المتعمد. وظل كل ليلة، قبل خلوده إلى النوم، يمسح الحصيرة من الغبار، يتأكد من وجودها ويتأملها، علّ إنانا تزوره من جديد ليقدمها لها!
هلسنكي ـ
كتابة أولى فجر الأول من شباط 2004
* النص من مخطوط قصصي معد للنشر
نشر في النسخة الالكترونية من العدد 454 - الثقافة الجديدة البغدادية.
المتواجون الان
720 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع