اخر الاخبار:
قاضٍ أمريكي يُغرّم ترامب ويهدده بالسجن - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 20:36
مصدر: صفقة «حماس» وإسرائيل قد تتم «خلال أيام» - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 11:00
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ارشيف مقالات وآراء

• العراق: التوافق داخل التوافق

د. جابر حبيب جابر

·        العراق: التوافق داخل التوافق

12/12/2010

لا يبدو لي أن الطبقة السياسية العراقية قد حققت اختراقا مهما باتجاه تشكيل سلطات تشريعية وتنفيذية فاعلة وقادرة على الارتقاء لمستوى التحديات الضخمة التي يواجهها البلد. لقد واجهنا حالة تعطيل تجاوزت الثمانية أشهر والقوى السياسية تخوض صراعا شرسا حول رئاسة الحكومة والمناصب، وخلال تلك المرحلة كان الخوف الأساسي هو أن يؤدي صراع النخب السياسية إلى انزلاق البلد نحو الفوضى وتأجيج الصراع الأهلي، بل إن تصاعد العنف خلال مرحلة المفاوضات لم يكن بمعزل عن الوضع السياسي. ذلك الوضع تم احتواؤه بتسوية سياسية ارتكزت على مجموعة صفقات هدفها إرضاء الجميع، بالطبع عدا المواطنين العاديين الذين ما زال رضاهم قضية غير معروضة للنقاش.

 

إنه التوافق مجددا. ربما صار كثير منا، بحكم الواقعية، يقبل بكلمة التوافق، إلا أن قليلا منا يتوقع منها أن تنتج مؤسسات لدولة فاعلة. التوافق صيغة لاحتواء الصراع ولتنفيس الاحتقان، وليس صيغة للإنجاز. ما يمكن أن ينتجه التوافق هو إرضاء كبار السياسيين بتسويات تجعلهم يترددون عن اللجوء إلى الخطة «ب»: أي تأجيج الشارع والتلاعب بالمشاعر الغريزية للناس. ولكن لأننا نتعامل مع عدة مكونات سياسية لا مكونين فقط، ومع عدة قوى داخل كل مكون، فإن التوافق في الحالة العراقية أخذ ينتج مزيدا من التوافقات ككرة الثلج التي تكبر كلما تدحرجت أكثر. إن فلسفة الحكم التوافقي (Consociational Rule) تقوم على فكرة أنه في مجتمع متعدد القوميات أو الإثنيات، فإن تخفيف احتمالات الصراع أو الإقصاء أو التهميش يتطلب ترتيبات سياسية ومؤسساتية تسمح بمشاركة جميع الأطراف وتطمين مخاوفها، لكن هذه الفلسفة غالبا ما نظر إليها كمرحلة انتقالية وعبور باتجاه ترتيب آخر لأنها تفترض أن الأطراف، وبحكم مشاركتها جميعا واعتيادها منطق التسويات والحلول الوسطى، ستطور حالة من الثقة المتبادلة، وسينعكس ذلك مجتمعيا، كما ستتعزز «الهوية الوطنية» الجامعة من دون أن تستند إلى الإقصاء أو الفرض.

 

بالطبع سيرى البعض أنه في الحالة العراقية ما زال الوقت مبكرا للانتقال إلى مرحلة أخرى وترتيب مختلف، وما زالت المخاوف والشكوك المتبادلة كبيرة، وسيحتاج الأمر ربما سنوات أخرى لتحقيق هذا الانتقال، ولكن في الوقت نفسه فإن احتمال أن يصبح الأمر معكوسا ما زال قائما، أي أن تتحول الترتيبات التوافقية إلى مدخل لمزيد من الترتيبات التوافقية، مما يقود إلى أن يتحول كل اتفاق سياسي إلى خطوة باتجاه إضعاف الدولة لا تقويتها، والحد من فاعليتها لا تعزيزها. الدستور العراقي حمل في طياته قبولا بمبدأ التوافق ولكن بحدود معقولة ولدورة واحدة عندما استبدل بمنصب رئيس الجمهورية هيئة الرئاسة، ومنح كلا من أعضائها حق الفيتو على القوانين، ولكن مشرعوه افترضوا أن هذه الحاجة ستزول بعد نهاية أول دورة انتخابية. ما نراه اليوم هو محاولة التوافق خارج الدستور، ثم محاولة التوافق داخل التوافق. بالمعنى الأول؛ إن هناك سعيا لخلق مؤسسات غير دستورية لتعبر لا عن حالة التوافق بل عن ضيق الإطار التوافقي إلى الحد الذي يتطلب صنع مؤسسات جديدة، كما هو الحال مع فكرة المجلس السياسي للأمن الوطني. إن أيا من المسودات المطروحة للمجلس لا تقدم إجابة واضحة عن الجدوى الدستورية لوجوده؛ لأنه إن كان رقابيا وتشريعيا فتلك وظيفة البرلمان، ولو كان تنفيذيا فتلك وظيفة مجلس الوزراء، ولو كان استشاريا فماذا عن جيوش المستشارين في المؤسسات القائمة، وأغلبهم يشكو بطالة مقنعة. الفكرة، كما أراها، هي محاولة خلق إطار مؤسساتي لزعماء الكتل السياسية يسمح بتحويلهم إلى نخبة فوق البرلمان وفوق الحكومة ويسحب من أعضاء البرلمان سلطاتهم الدستورية، ويحولهم إلى «ختم» (Rubber Stamp) لقرارات النخبة. وتلك خطوة باتجاه إفراغ الديمقراطية من جدواها.

 

الأمر ينسحب على محاولة «اصطناع» مزيد من الوزارات، وقد سمعت بالرقم 48 لعدد الوزارات، أي أكثر من ضعف عدد الوزارات في الحكومة الصينية التي تحكم نحو مليار ونصف مليار إنسان. يعني ذلك، وكما قلنا في مقال سابق، إثقال ميزانية الدولة وتعزيز ترهلها وزيادة الحلقات البيروقراطية ومعها فرص الفساد. وما لا تحاول الطبقة السياسية التفكير فيه هو أنه مع كل زيادة في عدد الوزارات تصير قيمتها أقل، وبالتالي فإن مقدار الربح الذي تستحصله من عشر وزارات بقيمة محدودة لن يتجاوز مقدار الربح الذي تستحصله بخمس ذات قيمة عالية. في وقت من الأوقات كان ربع العراقيين تقريبا جنودا أو في إحدى المؤسسات العسكرية، واليوم ستكون لدينا شريحة كبيرة جديدة اسمها شريحة الوزراء. الوزير كلمة كبيرة بمعنى ضئيل.

 

ثم يستكمل ذلك بالتوافق داخل التوافق، أي بعدم الاكتفاء بالتوزيع التوافقي للرئاسات الثلاث حسب المكونات، بل الإصرار على وجود (هيئة رئاسة) تحيط بكل من تلك الرئاسات وتخنقها بمنطق التوافق الصعب بما يعرقل قدرتها على الفعل والإنجاز. وإذا كانت المحكمة الاتحادية قد حكمت مؤخرا لصالح دستورية منصب رئيس البرلمان، لأنها احتكمت للدستور الذي لم يقل أبدا بالتوافق داخل التوافق، فإن كيفية التعامل مع هذا الحكم ستكشف لنا ما إذا كان منطق التوافق أم منطق الدستور هو الأقوى.

 

"الشرق الأوسط"

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.