مقالات وآراء
حاجي ژن.. حين تغدو المرأة وطناً يُؤوي الأرواح// سهيل الزهاوي
- تم إنشاءه بتاريخ الخميس, 20 تشرين2/نوفمبر 2025 21:24
- كتب بواسطة: سهيل الزهاوي
- الزيارات: 123
سهيل الزهاوي
حاجي ژن.. حين تغدو المرأة وطناً يُؤوي الأرواح
سهيل الزهاوي
وُلدت عائشة قادر سعيد، المعروفة باسم حاجي ژن، عام 1925 في قلعة دزة، المدينة التي تتكئ على الجبال وتستقي من صلابتها روح الصمود. منذ طفولتها، كان القدر يخطّ لها طريقًا مختلفًا، كأنه يهيئها لتغدو أكثر من امرأة، لتصبح ذاكرةً للنضال وصوتًا لا يخرس أمام الجور.
تزوجت من سوفي محمد رسول لوس، وأنجبت ثلاثة أولاد وبنتين. لكن يد الإقطاع امتدت لتخطف زوجها وتسطو على أملاكه، تاركةً خلفها أرملةً تواجه عالمًا لا يرحم. لجأت إلى المحاكم لتسترد حقها، لكن العدالة كانت حبيسة قصرٍ يحرسه الإقطاعيون. وحين لم تجد بابًا مفتوحًا، وجدت في نفسها بابًا إلى النضال. لاحقوها بالاغتيال مرارًا، لكنها كانت تنجو لأن للحياة رسالةً كتبت باسمها.
في نهاية عام 1958، أعلنت انتماءها رسميًا إلى الحزب الشيوعي، لا كخيارٍ سياسي، بل كميثاقٍ روحي مع العدالة، منذ ذلك اليوم، لم تعد حياتها ملكًا لها، بل أصبحت نذرًا لقضيةٍ تتجاوز الذات وتلامس جوهر الإنسان.
بعد قصف قلعة دزة في عام 1974، حملت قلبها ورحلت إلى رانية، وهناك وجدت في رابطة المرأة العراقية بقيادة پەرژين أحمد باپير وطنًا من النساء اللاتي يحوّلن الألم إلى طاقة، والخذلان إلى فعلٍ مقاوم. وفي عام 1977، اضطرت إلى الانتقال إلى السليمانية بسبب مضايقات الأجهزة الأمنية، حيث التقت بالرفيقة نجيبة صديق، فانفتح أمامها طريق الحزب الشيوعي العراقي، لتفتح هي بالمقابل باب بيتها وتهبه للحزب: بيتٌ صغير صار ملاذًا للأمل، ومأوى للسرية، وموقدًا للحلم الجماعي.
في عام 1984، تحوّل بيتها إلى مطبعة سرية تنبض بالحياة. بين جدرانها كانت تُطبع أدبيات الحزب وبياناته، وتخرج من بين يديها كلمات تتوهج كجمرة في ليل الوطن. كان صوت المطبعة الخافت في العتمة يشبه نبض قلبها، وكانت الأوراق تفوح برائحة التضحية والوفاء.
وفي العام ذاته، حملت على عاتقها خط البريد الحزبي بين المنظمة والقيادة، متنقلة بين الأزقة والجبال، تحمل الرسائل كمن يحمل الأرواح. ذات يومٍ، وقعت في كمينٍ للجحوش، لكن حيلتها وشجاعتها أنقذتاها. أنقذت البريد، وأنقذت معها وعدها للحزب، ووعدها للوطن.
كانت حياتها مسيرةً لا تعرف السكون. إذا ابتعدت عن النضال أثقلها الحزن، وإذا كُلّفت بمهمة أضاء وجهها كأنها تُبعث من جديد. وعندما استُشهد ابنها الأصغر عبد الرحمن في 15 تموز 1982، لم تبكِ، بل قالت: لا تحزنوا، بل اذكروه بالخير، لأنه استُشهد من أجل قضية، دفاعًا عن مصالح الكادحين." كانت كلماتها مرثيةً تحولت إلى نشيد، ودمعةً ارتفعت إلى راية.
بل وأكثر من ذلك، حين كُلّفت بمهمة حزبية بعد أيام من استشهاده، تركت مجلس العزاء بهدوءٍ شامخ، وذهبت لتنفيذ المهمة، كأنها تؤمن أن الوفاء لدمه هو في مواصلة الطريق، لا في البكاء عليه.
وفي المنفى، ظلت تحمل أمنيةً واحدة: أن تزور ضريح لينين في موسكو. وقد تحققت لها تلك الأمنية، كأن القدر أراد أن يمنحها طمأنينة اللقاء الأخير مع رمزٍ من رموز العدالة التي آمنت بها. وفي الثالث من كانون الثاني 1995، أُسدلت الستارة على حياةٍ ملأى بالنور، ودُفن جسدها في قرية إيسكرا قرب موسكو، بينما بقيت روحها تحرس ذاكرة النضال، وتضيء للأجيال درب الإيمان والوفاء.
لم تكن حاجي ژن امرأة عابرة في سجل التاريخ؛ كانت وطنًا يُؤوي الأرواح، وتاريخًا ينطق بضميرٍ أنثوي لا ينام فحين تؤمن المرأة، تصير وطنًا، وحين تناضل، تصير تاريخًا، وحين تُضحّي، تصير ضميرًا لا يُمحى.


