مقالات وآراء
علي تاج الدين: شاعر الأسطورة والمجازات العالية// محمد علي محيي الدين
- تم إنشاءه بتاريخ الخميس, 18 كانون1/ديسمبر 2025 12:17
- كتب بواسطة: محمد علي محيي الدين
- الزيارات: 298
محمد علي محيي الدين
علي تاج الدين: شاعر الأسطورة والمجازات العالية
محمد علي محيي الدين
حين تنبجس القصيدة من قلب مدينة الحلة، فإنها لا تأتي رخوةً ولا مجاملة، بل تتقد بجمر الأسئلة وتُصاغ بأناة من يعرف أنّ الكلمة بيت وأنّ الحرف نصل. ومن هذا الفيض، خرج صوت الشاعر علي تاج الدين ليعبر الضفاف الشعرية بثبات العالم على يقين، وبقلق من يدري أن الشعر مأساة تولد من رحم الدهشة.
وُلد علي عامر جابر تاج الدين في حي الأمير، أحد أحياء الحلة، بتاريخ 17 تموز 1984، ونشأ في مدينةٍ لطالما احتضنت جمر الشعر المتوهج منذ أيام التكايا والمدارس الدينية. درس اللغة العربية في كلية التربية – جامعة بابل، وتخرج فيها عام 2007، ثم أخلص للأدب العربي الحديث ونقده، فكان بحثه للماجستير بمثابة مفتتح لمعانقة الأسطورة في بعدها السومري، كما بدت في شعر خزعل الماجدي. أما في الدكتوراه، فقد وسّع من هذا الانشغال ليطوّع "الأسطورة وتمثلاتها في الشعر العراقي التسعيني"، دراسة كشفت عن فهم عميق للمخيلة الجمعية وطرق تمظهرها في النص الحديث.
لم يكن علي تاج الدين شاعرًا فقط، بل باحثًا في ماهية الشعر، ناثرًا أضواء التحليل على مناطق الظل، وقارئًا لنفسه ولغيره بعين الناقد المتورط بعاطفة المحب. أصدر أولى مجاميعه الشعرية بعنوان "مرافئ الحنين" عام 2007، وواصل بعدها التجريب والمغامرة عبر مجموعات مشتركة حملت عناوين طويلة ومتفجرة بالصور كـ "مخلَّفات تقطرها أدمغة الأسئلة..."، ودخل مع رفاقه في مغامرة "ميليشيا الثقافة" عبر مجموعة "الشعر في حقول الألغام"، تلك التي كتب مقدمتها عبد الرحمن الماجدي، وأُنجزت بروح جماعية نقدية متمرّدة.
ولعلي تاج الدين اليوم ثلاث مجاميع شعرية مخطوطة، وربما يجدها – كعادته – غير مكتملة بعد، لأنّ هاجس الكتابة عنده لا يُشبع ولا يكتفي، فكل نص يولد ومعه سؤال جديد عن جدوى الكلمة وإيقاع المعنى.
في شعره، تتجاور الأسطورة باليومي، ويلتحم التراثي بالحاضر المأزوم. تتراءى صور سومرية، وأخرى مشتبكة بالأنطولوجيا، وثالثة تفلت من التاريخ لتقول "أنا"، لا على طريقة النرجس، بل على طريقة من يحفر في الذات لينقذ الجماعة. إنّ نصوصه مكتظة بـ"رنين الواحد"، كما جاء في عنوان إحدى مجاميعه، وتبدو متعلقة بـ"مخاط الحروف"، ذاك الذي يربط الكلام بدم الحياة.
نقاد بصموا تجربته
كتب عنه عددٌ من النقاد والدارسين، ممن رأوا في قصيدته مشروعًا متفردًا في لغةٍ متوترة وصورٍ منفتحة على ميتافيزيقا الحنين والوجع والتاريخ. فقد كتب الأستاذ الدكتور محمد أبو خضير عن بناء الصورة لديه، وأشار إلى أن تاج الدين يمارس كتابة "القصيدة-المختبر"، حيث تتلاقى المعارف والرؤى والجماليات في ساحة صراع دائم. أما عباس عبد جاسم، فلفت إلى أنّ قصائده تتعامل مع اللغة بوصفها جسدًا حيًّا، لا مجرد وسيلة تعبير.
أما سعيد الباز، فرأى في شعره نزوعًا أنطولوجيًا صوفيًا، يحفر في الذات ويسبر أحزانها، بينما نظر إليه الدكتور عدنان الظاهر بوصفه شاعرًا ذا نبرة نقدية حادة تترجم ما يتجاوز الانفعال اللحظي إلى وعي ثقافي شامل. وكتب الدكتور قيس كاظم الجنابي وعلوان السلمان وحميد حسن جعفر وحاتم التليلي وزيد قطريب، كلٌّ منهم مقاربة تسعى إلى الكشف عن بنية هذا الشعر الذي لا يتورع عن ملامسة المحظور، ولا يتردد في محاورة الأسطورة كأنها كائن يومي.
حضور شعري متقد
شارك علي تاج الدين في مهرجانات بارزة، منها عالم الشعر الثاني عام 2011، ومهرجان الجواهري الحادي عشر عام 2014، وفيها ألقى قصائد استوقفت المستمعين عند مفرداته المختلفة، ونبرته القلقة، وجرأته في تفكيك الواقع من داخله، لا من فوقه.
نشرت نصوصه في العديد من المجلات والصحف العراقية والعربية، وتُرجمت قصائده إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والبولندية والإيطالية، ما يشير إلى عبور تجربته خارج الحدود الجغرافية واللغوية، وإلى قابليتها على التواصل مع الذائقة العالمية.
والخلاصة ان علي تاج الدين شاعر لا يُكتب عنه دفعةً واحدة، لأن كل مرحلة من تجربته الشعرية تمثل اكتشافًا جديدًا للغة، وزاوية نظر جديدة إلى العالم. هو ابن المدينة والنهر والتراث، وفي الوقت نفسه ابن الأسطورة والتمرد والمجاز. بين كتبه ومخطوطاته، وبين تدريسه وبحوثه، وبين القصيدة والمنصة، يواصل الشاعر رحلته لا ليصل، بل ليواصل طرق الأسئلة التي تشبهه: معقدة، مشاكسة، ومفعمة بالحياة.
فمن هنا، من مدينة الحلة، يمضي شاعرٌ نحته القلق، ووشمته الأسطورة، وسقته اللغة خمرة لا تنفد.


