مقالات وآراء
في اليوم العالمي للغة العربية: بيانٌ داخلي إلى الشعوب العربية// رانية مرجية
- تم إنشاءه بتاريخ الخميس, 18 كانون1/ديسمبر 2025 19:57
- كتب بواسطة: رانية مرجية
- الزيارات: 308
رانية مرجية
في اليوم العالمي للغة العربية: بيانٌ داخلي إلى الشعوب العربية
رانية مرجية
نحن لا نُحيي “يومًا” للغة العربية بقدر ما نُحاكم أنفسنا أمامها.
فاللغة ليست بطاقة هوية نُظهرها في المناسبات، ولا زخرفةً ثقافية نعلّقها على جدار الذاكرة، بل هي شرط الوجود: كيف نفكّر، وكيف نَفهم، وكيف نُسمّي الأشياء دون أن تُسمَّى لنا.
في اليوم العالمي للغة العربية، لا يكفي أن نقول إنها جميلة. الجمال لا يحمي لغة. الذي يحمي اللغة هو أن تكون نافعة، مُنتِجة، قادرة على حمل المعرفة، وعلى صياغة السؤال، وعلى بناء المفهوم، وعلى تحمّل توتر العصر دون أن تنكسر.
العربية لم تكن يومًا مجرد “لغة”، بل منظومة حسّ ووعي. لغةٌ تعلّمت أن تجمع بين الدقة والروح: تُسمّي الفكرة وتُضيء ظلالها، تُمسك المعنى وتترك له مجالًا للتأمل. هي لغة لا تكتفي بوصف العالم، بل تُعيد ترتيبه في العقل. ولهذا كانت، عبر تاريخها، بيتًا للعلم والفلسفة والفقه والشعر، ومختبرًا لصناعة المعنى قبل أن يصبح “المعنى” سلعة في السوق.
لكن ما يحدث اليوم ليس تراجعًا طبيعيًا فحسب؛ إنه تآكلٌ بطيء في الثقة. والثقة هي جهاز المناعة اللغوي. حين يفقد الناس ثقتهم بلغتهم، يبدأون باستعارة أصوات غيرهم، لا لأن تلك الأصوات أعمق بالضرورة، بل لأنها تبدو أكثر قوة في سوق الهيبة. وهنا تحديدًا تبدأ الهزيمة: حين نقتنع أن لغتنا تصلح للمشاعر لا للعلوم، وللخطابة لا للتقنية، وللماضي لا للمستقبل.
يا شعوب العربية،
لقد عرّينا لغتنا كثيرًا ثم تساءلنا لماذا ترتجف.
علّمنا أبناءنا أن العربية “مادة دراسية” لا طريقة حياة، ثم استغربنا لماذا تخرج من المدرسة منهكة، بلا رغبة ولا شغف.
جعلناها امتحانًا في القواعد، لا تدريبًا على التفكير.
حاصرناها بمناهج لا تفتح نافذة على العالم، ثم طالبناها أن تنافس لغات مدعومة بمؤسسات وبحث علمي وصناعة معرفة.
الأخطر من “الخلل اللغوي” هو الخلل المفاهيمي:
حين نُفقِد العربية حقها في إنتاج المصطلح، ونكتفي باستيراده؛ حين نقبل بأن تكون الترجمة بدلًا من الإبداع، وأن يكون الاستهلاك بدلًا من التأليف.
لغةٌ لا تُنتج مفاهيمها تصبح لاحقًا عاجزة عن إنتاج مستقبلها، لأن المستقبل يُبنى بالمفاهيم قبل أن يُبنى بالمشاريع.
ولنقلها بصراحةٍ لا تُجامل:
العربية لا تُهزم من الخارج إلا بعد أن تُهزم من الداخل. تُهزم حين تصبح “لغة هامش” في الجامعات، و”لغة ثانوية” في الإدارة، و”لغة مصطنعة” في الإعلام، و”لغة خجولة” في البيوت. تُهزم حين تتحوّل إلى لغة شعارات لا لغة سياسات، وإلى لغة مناسبات لا لغة اقتصاد ومعرفة وابتكار.
في المقابل، من السذاجة أن نُصوّر الدفاع عن العربية كمعركة ضد اللغات الأخرى.
لا أحد ينهض بإغلاق النوافذ.
اللغات الأخرى ضرورة، والانفتاح ضرورة، والتعددية نعمة.
لكن الفارق كبير بين من يتقن لغة أخرى بوصفها إضافة، ومن يستبدل لغته الأم بوصفها تنازلًا.
الفارق كبير بين الانفتاح والذوبان.
اللغة ليست “وسيلة تواصل” فقط، بل هي سيادة رمزية. ومن يفقد السيادة الرمزية يفقد تدريجيًا القدرة على صياغة روايته:
كيف يشرح قضيته؟ كيف يكتب تاريخه؟ كيف يعرّف نفسه للعالم؟ حين تصبح مفرداتنا مستعارة، تصبح رؤيتنا مستعارة. وحين تصبح رؤيتنا مستعارة، نصبح، دون أن نشعر، قابلين لأن يُعاد تعريفنا.
لهذا، المطلوب في يوم العربية ليس احتفالًا، بل مشروعًا أخلاقيًا ومعرفيًا:
مشروع يُعيد العربية إلى مكانها الطبيعي كلغة تفكير لا لغة زينة.
مشروع يبدأ من المدرسة: أن نُعلّم العربية بوصفها قدرة على بناء الحجّة، وصناعة السؤال، وقراءة النصوص الكبرى والواقع اليومي معًا. ويصل إلى الجامعة: أن تُكتب بها أبحاث تُنافس، لا ملخصات تُترجم. ويمتد إلى الإعلام: أن تكون العربية لغة دقيقة لا صاخبة، واضحة لا مبتذلة. ويعود إلى البيت: حيث يبدأ كل شيء، وحيث تُصنع العلاقة الأولى مع اللغة: حبًا أو نفورًا.
نحن بحاجة إلى شجاعة جديدة:
أن نقول إن العربية ليست عبئًا، بل طاقة. وأن نُعيد لها شروط الحياة الحديثة: مصطلحات متجددة، محتوى علمي رصين، منصات معرفة، أدب يُنصت للعصر دون أن يبيع روحه، وخطاب عام يحترم عقل الناس ولا يستخف بلغتهم.
في اليوم العالمي للغة العربية، فلنطرح السؤال الذي يوجع لكنه ينقذ:
هل نريد العربية “أن تبقى”، أم نريدها “أن تعيش”؟
البقاء يعني أن نحتفظ بها في المتاحف والمناسبات.
أما الحياة فتعني أن تدخل المختبر، والجامعة، ومركز الأبحاث، وغرفة الأخبار، وسوق العمل، وأن تظل قادرة على تسمية المستقبل بأسمائه الجديدة.
نختار العربية، لا لأنها وحدها الحقيقة، بل لأنها طريقنا إلى الحقيقة ونحن كما نحن.
نختارها لأننا نرفض أن نكون بلا لسانٍ يخصّنا، وبلا معنى يصدر من داخلنا.
نختارها لأن الكرامة ليست سياسية فقط؛ الكرامة أيضًا لغوية ومعرفية.
ومن لا يملك لغته، لا يملك تمامًا نفسه.
هذا يوم العربية.
فإما أن نجعله مناسبة للمديح العابر، أو لحظة قرار: أن نستعيد لغتنا من الهامش إلى المركز… لا بالكلام عنها، بل بالكلام بها—وبها فقط—حين نكتب العلم، ونصنع الفكرة، ونبني الإنسان
رانية مرجية
كاتبة اعلامية وموجهة مجموعات


