الحقيقة الغائبة: نظراتٌ في أسرارِ أسمهان، وسحرِ فنِّها (ح 5)// سيمون عيلوطي
- تم إنشاءه بتاريخ الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 21:22
- كتب بواسطة: سيمون عيلوطي
- الزيارات: 887
سيمون عيلوطي
أسمهان بين الفن المبدع والسِّياسة المُضنية:
الحقيقة الغائبة: نظراتٌ في أسرارِ أسمهان، وسحرِ فنِّها
(الحلقة الخامسة)
سيمون عيلوطي
خروج أسمهان من عُشِّ الزَّواج جعلها تعود إلى غنائها وجمهورها من أوسع الأبواب، بعد انقطاع دام ستة أعوام قضتها مع زوجها في سوريا، ورأت أنها تستطيع أيضًا أن تُعدِّل كفَّة الميزان لصالح رصيدها الغنائي النَّاجح فنيًا، والقليل بالنَّسبة لعدد أغنيات أترابها من الفنانين، وهي تعرف أن ما قدَّمته لم يكفِ لإظهار إمكانيَّات صوتها الذي يفوق أصوات الرِّجال والنِّساء على حدٍّ سواءـ ولا يجاريه سوى صوت أم كلثوم، مع الفارق بين المطربتين في التَّوجه إلى عالم الغناء، أسمهان وجهتها نحو التَّجديد الذي تريده أن يصل حدَّ الأوبرا، بينما أم كلثوم متمسِّكة بالطَّابع الغنائي الشَّرقي الأصيل الذي تألَّقت في مجاله وأصبحت كوكبه. أما بالنسبة لصوت أسمهان، فقد قالت الناقدة الموسيقيَّة المصريَّة، مروة صلاح متولي في مقال نشرته جريدة "القدس" في 23 مارس 2020، عنوانه: "أسمهان: موسيقى الصوت ودراما الغناء" جاء فيه ما يلي:
"أما صوتها فهو كالشيء الثمين النادر، الذي نقترب منه بحذر شديد، ونخشى وضوح جماله الساطع الباهر، وماذا يمكن أن نقول عن هذا الصوت؟ هل نقول إنه موسيقى قائمة بذاتها؟ أم إن صوتها هو آلتها الموسيقية الخاصة؟ وإن أوتار حنجرتها إنما هي أوتار تلك الآلة؟ ونتساءل هل أسمهان صوت يغني؟ أم نفس تغني؟ أم روح تغني؟ هي كل ذلك لأنها تجمع بين جمال الصوت وإحساس النفس، وغموض الروح، ونرى إن أسمهان لم تكن صنيعة الملحنين كما يحاول أن يصورها البعض، بل كانت هبة سماوية لهؤلاء الرجال الذين لحنوا لها، وعلى صعيد الغناء كانت هي الصوت الأنثوي الذي يستطيع أن ينافس الرجال، ويجبر الجميع على أن يأخذ هذه المرأة الجميلة على محمل الجد،"(إلى هنا الاقتباس)
الملحّنون الذين تعاونوا مع أسمعان، محمد القصبجي، زكريا أحمد، رياض السُّنباطي، محمد عبد الوهاب، فريد غصن، شقيقها فريد الأطرش، لاحظوا نكهة الاختلاف التي تميِّز صوت أسمهان وروحها بالغناء ما شجَّع الموسيقار مدحت عاصم أن يُقدِم على التَّلحين لها بأسلوب جديد يساير اختلاف صوتها وامكانياته الخارقة، فكان السبَّاق في إعطائها أغنية تحاكي هذا اللون الجديد، وهي أغنية: "دخلت مرَّه بجنينة"، كلمات: عبد العزيز سلام، 1939، لَحْن هذه الأغنية المختلفة، فرضه، بلا شك، على الملحّن "عاصم" صوت أسمهان المختلف عن جميع أصوات وأنماط عصرها، ما دعا غيره من الملحّنين أن يحدوا حدوه، ويسيروا مع اسمهان في موكب التّجديد الذي يُطابِق صوتها وينسجم مع طبعها الرّاقي المتطلّع إلى الحريَّة والتَّجديد والانطلاق.
نستنتج من ذلك أنّ أسمهان فرضت على حركة الموسيقى العربيَّة أنماطًا جديدة، ومتطوّرة، شكَّلت قفزة على أساليب التَّلحين والغناء السَّائدين قبلها، وعلى الملحّنين عند التَّعاون معها أن يأخذوا هذا الجَّانب بالاعتبار، وقد فعلوا، إذ ما هي حاجتهم لتكرار نفس الأسلوب الشَّرقي عند وضع الألحان لأسمهان، ما دامت المتألِّقة، أم كلثوم، تغنِّي ألحانهم الشرقيَّة الأصيلة بإعجازٍ ساحرٍ منقطع النظير.
صاحب "رق الحبيب" الفنَّان الكبير، محمد القصبجي، أعجب بالظَّاهرة الجديدة التي تريدها أسمهان بالغناء، فقام بدمج الإنشاد الغربي الأوبرالي بالقوالب اللحنيَّة الشرقيَّة، ووضعه بأسلوب غريب عن الغناء العربي، وقد أبدع ذلك في أغنية "يا طيور" كلمات يوسف بدروس. أسمهان، سحرتها الأغنية، فتألَّقت بشدوها في العام 1944، وأعتقد أنَّ المطربات اللواتي غامرن في تأدية هذه الأغنية لم يصلن في إحساسهن إلى المستوى المرجو الذي لمسناه في الأصل، بل كانت أكبر من مقاس أصواتهن بكثير، ومن العلامات البارزة في تجديد غناء المطربة الأميرة كانت أغنية: "ليالي الأنس في فيينا" كلمات: أحمد رامي، تلحين فريد الأطرش، عام 1944.
وهناك العديد من الأغاني التي شاركت فيها أسمهان بصوتها بالأفلام دون أن تظهر بطلَّتها البهيَّة، أذكر منها فيلم أوبريت "مجنون ليلى" تأليف أحمد شوقي، تلحين عبد الوهاب، حيث شاركته الغناء من غير أن تظهر في الفيلم، وذلك بحجّة خوفها من أهلها في الجّبل، غير أنَّ وراء عدم ظهورها في هذه "الأوبريت: كان شقيقها فريد، فقد أرادها أن تظهر معه هو لأول مره في أوبريت فيلم "انتصار الشباب" في العام 1941، وقد لاقى هذا الفيلم عند عرضه ترحيبًا جماهيريًا واسعًا، ونجاحًا أكَّدَ موهبة فريد الأطرش الموسيقيَّة-الغنائيّة، وتوَّج أسمهان على عرش الغناء.
الحقيقة أنَّ أسمهان لم تعمل، كما يجب، على تطوير مشروعها الغنائي الطَّلائي الذي أحدث انقلابًا في الغناء العربي، بل راحت تقضي أوقاتًا طويلة في اللهو والسَّهرات والواجبات الاجتماعيَّة، وكان ذلك على حساب فنَّها، وصوتها الذي لم تصنه بإقدامها على التّدخين غير مكترثة بنصائح شقيقها فريد بالإقلاع عنه حفاظًا على سلامة صوتها. ثم ابتعادها عن عملها الفني وانشغالها بالسِّياسة، فهي حين كلَّفتها المخابرات البريطانيَّة أن تقوم بإقناع أهلها في الجَّبل، ثم اقناع جيرانهم في حوران على تسهيل مرور الجيش البريطاني عبر أراضيهم إلى دمشق بهدف دحر قوَّات الفيشي واخراجها من الأراضي السوريَّة، وذلك مقابل تعهُّد بريطانيا رسميًا بمنح سوريا ولبنان الحريَّة الاستقلال.
رأت أسمهان أنها بتجاوبها مع البريطانيِّين تستطيع أن تخدم بلدها الذي طالما ناقشت قضاياه وهمومه مع زوجها الأمير حسن الأطرش ودلَّت من خلال تلك المداولات على عمق انتمائها لوطنها وانشغالها بمختلف قضاياه، وقد كتب عن ذلك أبن عمها، المخرج السُّوري ممدوح الأطرش في "منتديات الموسيقار فريد الأطرش وشقيقته أسمهان" كتب ما يلي:
"تزوج الأمير حسن من آمال واصطحابها إلى جبل العرب أميرة لجبل الدروز لمدة ستة أعوام كاملة انقطعت خلالها عن الوسط الفني. وهكذا نضج ونما عند أسمهان الحس الفكري والسياسي والوطني بحكم علاقات زوجها، لأنها كانت المرأة الأولى في جبل الدروز، وكان يسمح لها بدخول مجلس الرجال كونها أميرة لجبل الدروز. ومجلس الرجال كان هو المدرسة، ومنه كانت تصدر القرارات السياسية والاجتماعية والعملية وكل شيء... وهنا نما الوعي الفكري لأسمهان وتشكلت شخصيتها التي كان لها الأثر البارز فيما بعد في تدخلها في العديد من الأحداث السياسية والعلمية."
نجحت الأميرة في مهمتها، وارتاح أهلها في الجبل للبيان الرسمي الذي أطلقه الجنيرال "كاترو"، والذي أذيع ورُمي من الطائرات كمنشور ينصُّ على منح سوريا ولبنان الاستقلال، وقد جاء فيه: "أيها السوريُّون واللبنانيُّون: ساعةٌ هامةٌ من تاريخكم قد أزِفَت، إذ تدخل أراضيكم قوَّات فرنسا الحرَّة والمتَّحدة مع قوَّات الإمبراطوريَّة البريطانيَّة الحرَّة، أعلِنُ أنني أتولَّى تنفيذ سلطات فرنسا ومسؤوليَّتها وواجباتها، فرنسا الحقيقيَّة، باسم قائدها الجنيرال ديغول، وأنا قادمٌ بهذه الصِّفة لأنهي نظام الانتداب، وأعلِنُ حريَّتكم واستقلالكم".
استقبلت أسمهان البيان بارتياح شديد، وخرج النَّاس إلى الشَّوارع يهتفون باسمها، وأصبحت زعيمة سياسيَّة، بل بطلة بفضلها سينصرف الجلاد، تتحرَّر البلاد، وينعم العباد.
(يتبع)
المتواجون الان
711 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع