قراءة نقديّة وجدانيّة فائقة العمق في قصّة «لِحية ثوريّة» – عامر عودة// رانية مرجية
- تم إنشاءه بتاريخ الأربعاء, 17 كانون1/ديسمبر 2025 12:06
- كتب بواسطة: رانية مرجية
- الزيارات: 369
رانية مرجية
اللِّحية حين تصير بيانًا… والجبن حين يُكافأ بطولة
قراءة نقديّة وجدانيّة فائقة العمق في قصّة «لِحية ثوريّة» – عامر عودة
رانية مرجية
ليست «لِحية ثوريّة» نصًا ساخرًا فحسب، بل نصًّا كاشفًا، فاضحًا، ومؤلمًا؛ نصٌّ يضع إصبعه مباشرة على عصب الثقافة العربيّة المعاصرة، حيث تختلط الثورة بالاستعراض، والموقف بالصورة، والقصيدة بالسوق. إنّها قصّة قصيرة في حجمها، لكنّها واسعة كمرآة جماعيّة، لا تعكس فردًا بعينه، بل تعكسنا جميعًا حين نختار السلامة ونسمّيها حكمة.
من العنوان، يعلن عامر عودة لعبته السرديّة: اللحية ليست رمزًا بريئًا، بل علامة أداء. هي ليست امتدادًا لفكرة، بل بديل عنها. هنا تبدأ القصّة من الجسد لا من الفكرة، من المظهر لا من الجوهر، وكأنّ الكاتب يقول منذ البدء: في هذا الزمن، لا تُقاس الثورات بما تُغيّره، بل بما تُظهره.
الشخصيّة المركزيّة ليست شاعرًا بالمعنى الإبداعيّ، بل فاعلًا ثقافيًا داخل منظومة استهلاكيّة. إنّه يعرف جيّدًا أنّ القصائد الوطنيّة أصبحت عملة رائجة، ومع ذلك يدخل السوق بوعي كامل. هذا الوعي هو جوهر الإدانة. فنحن لا أمام سذاجة، بل أمام اختيار محسوب: اختيار الشهرة بدل الموقف، والنجاح بدل الحقيقة. وهنا تتبدّى خطورة الشخصيّة؛ لأنّها ليست كاذبة على ذاتها، بل متصالحة مع كذبها.
القصيدة الوطنيّة، كما يقدّمها النصّ، لم تعد فعل مقاومة، بل أداءً لغويًا منزوع المخاطرة. النقّاد الذين يصفّقون، الأحزاب التي تدعو، الجماهير التي تهتف… كلّهم جزء من ماكينة واحدة تُعيد إنتاج الرداءة الأخلاقيّة بلغة عالية. إنّ الكاتب لا يسخر من الشاعر وحده، بل من الحقل الثقافيّ بأكمله حين يفقد بوصلته، ويستبدل المعنى بالضجيج.
اللحية، التي تنمو وتُشذّب وتُصفَّف بعناية، تتحوّل إلى استعارة كبرى للنفاق السياسيّ. إنّها لحية بلا تجربة، بلا مواجهة، بلا كلفة. جسدٌ يتزيّن بالثورة فيما القلب يرتجف. والكاتب هنا شديد الذكاء؛ فهو لا يحمّل الشخصية خطابًا أخلاقيًا مباشرًا، بل يترك الجسد يفضحها: يدان مرتجفتان، صدر ضيّق، ساقان عاجزتان عن التقدّم. إنّ الجسد في هذا النصّ أصدق من اللغة.
التوتّر السرديّ لا ينبع من الحدث، بل من الداخل. الخوف هنا ليس طارئًا، بل بنية نفسيّة. الخوف من الشرطة، من الاعتقال، من فقدان الصورة، من خسارة الجمهور. وهذا التعدّد في مصادر الخوف يكشف مفارقة قاتلة: الشخصية لا تخاف القمع بقدر ما تخاف انكشاف حقيقتها. إنّها تخشى أن تُطالَب بالفعل، لا بالكلام.
مشهد العنف، حين يُضرب أحد المعتقلين ويسيل الدم، هو لحظة اختبار. والكاتب يمرّ بها بسرعة مقصودة، لأنّ الهدف ليس تصوير القمع، بل قياس ردّة الفعل. وهنا يفشل الشاعر امتحان الإنسان. يعود أدراجه، يخلع الجاكيت، يشرب الماء، يستعيد أنفاسه… وكأنّه يخلع الثورة قطعةً قطعة. هذه اللحظة هي لحظة موت داخليّ، لا ضجيج فيها ولا شعارات.
لكن الذروة الحقيقية، الذروة الفلسفيّة والأخلاقيّة، تأتي في النهاية: الفرج. الفرج لا يأتي من الصمود، بل من القمع نفسه. الشرطة، التي خاف منها، تمنحه ما لم تمنحه له شجاعته: بطولة جاهزة. صورة مصقولة، خبر عاطفيّ، لقب كبير. هنا يبلغ النصّ أقصى درجاته القسوة؛ إذ يقول لنا بوضوح:
في هذا الزمن، يمكنك أن تكون بطلًا دون أن تفعل شيئًا، يكفي أن تكون ضحيّة في الرواية لا في الواقع.
«لِحية ثوريّة» نصّ يكتب ضدّ الرومانسيّة الثوريّة، وضدّ البطولة المعلّبة، وضدّ الشعر حين يفقد وظيفته الأخلاقيّة. إنّه نصّ لا يصرخ، بل يجرح ببرودة، لأنّه يعرف أنّ الحقيقة حين تُقال بهدوء تكون أكثر فتكًا.
إنّ عامر عودة لا يسأل: من هو الشاعر؟
بل يسأل السؤال الأخطر: من نحن حين نُعفي أنفسنا من الثمن، ونطالب القصيدة أن تدفعه نيابةً عنّا؟
نصٌّ ذكيّ، قاسٍ، ومزعج… لأنّه لا يفضح الآخر، بل يترك القارئ وحيدًا أمام مرآته
رانية مرجية
كاتبة اعلامية وموجهة مجموعات
المتواجون الان
507 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع



