اخر الاخبار:
قاضٍ أمريكي يُغرّم ترامب ويهدده بالسجن - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 20:36
مصدر: صفقة «حماس» وإسرائيل قد تتم «خلال أيام» - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 11:00
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

Beez5

حكاية ونَص- "نقطة تفتيش" في رأسي!// محمود حمد

محمود حمد

 

عرض صفحة الكاتب 

حكاية ونَص

"نقطة تفتيش" في رأسي!

محمود حمد

 

بعد أن طال مقامي في غرفة المستشفى صرت امضي الليل ازاء النافذة المغلقة المطلة على الظلمة اصغي إلى أنين المرضى وحفيف الريح بأغصان الأشجار...

 

تهاوت تلك الليلة بعض خرائب النفوس في زمن الحرب من ثمانينيات القرن الماضي...وتوالت عليَّ وجوه بعضهم: 

كانت السيدة (صهباء) تلفت الجميع بغطرستها عندما تحضر مكاناً عاماً...حيثما يقام معرض فني أو نشاط ثقافي لا تخطئ العين مشيتها إلى جوار (معالي الوزير!) بإيقاع خطواتها التي يتردد صداها في القاعات الأنيقة التي يستوطنها صمت الذعر من السلطة، وخلفها حارسها الشخصي وكاتم أسرارها (عبد علوان) ...

لم يسبق لـمن مثلي أن تحدثوا معها أو اقتربوا منها، رغم أنها تُمسك بنبض النشاط الثقافي في البلد، ألاّ أنه لم يُعرف عنها أنها كاتبة، أو فنانة، أو شاعرة، أو روائية، لكن الجميع يخشى تسلطها على "خلق الله" وصلفها في التعامل مع الآخرين وتجاوزها مسؤوليها في الوزارة بأساليب وقحة!

يتجنب الموظفون من حولها الاقتراب منها لمعرفتهم بقربها من رأس السلطة!

ضمن محاولاتي للهروب خارج البلد، طلبوا مني في دائرة الجوازات موافقة دائرة خاصة في وزارة الإعلام والثقافة على ذلك، رغم أني لست موظفاً في الوزارة، وعندما دخلت المبنى كان المكان مكتظاً بوجوه قاطعة كالسيوف تحيط بـ(صهباء)...

جرى تفتيشي واستجوابي أمام (صهباء)، مما أوقد الموقف في نفسي نيران الغيظ المشوب بالخوف، لكني شعرت كأن كابوساً تبدد عن روحي عندما رفضت الموافقة على طلبي وعدت سالماً إلى الشارع!

بعد أكثر من عشر سنوات من ذلك التاريخ دعاني صديقي (محمد عمران) لحضور افتتاح معرضه الشخصي في قاعة العرض الثانية بالمتحف الوطني...لمحت من وراء حشد الأصدقاء الذين جاؤوا لحضور افتتاح المعرض، امرأة هزيلة متلفعة بالسواد تجلس وحدها في غرفة كتب عليها (مستودع المرفوضات) ...تائهة وراء المكتب الشاحب الضوء وعيناها تحدق نحو مجهول عالق في سقف الغرفة الواطئ، وعند باب الغرفة يجلس عجوز أعجف منشغل بمسبحته غير مكترث بما يدور حوله!

حينها أخبرني (محمد عمران) إن بعض لوحاته رفضت وهي مركونة هناك، وأشار إلى الغرفة حيث تجلس المرأة المنكفئة خلف الغمامة السوداء...

فجأة استدرك (محمد عمران):

هل تعرف تلك المرأة الجالسة في مستودع المرفوضات:

حَدَّقت من بعيد فبدى لي وجه المرأة خلف غبار الماضي ملتبساً...فأسعفني (محمد عمران):

هذه (السيدة صهباء)!

ودونما تَفَكُّرٍ تساءلت:

ما لذي حل بها؟

جذبني (محمد عمران) جانباً واختزل لي الحكاية:

كلفوها بوضع جهاز تنصت تحت فراش الزوجية لشَكِّهِم بولاء زوجها للسيد الرئيس...وفي اليوم التالي اختفت أخبار زوجها!

وعندما تحركت تسأل عنه...جوبهت بوجوه قاطعة كالسيوف من لدن من كان يتذلل لها...بعد شهر سُلِّمَتْ لها ورقة الوفاة دون جثة، وبعدها بأسبوع وقع حادث دهس لابنها البكر، وقبل انتهاء أربعينيته غرق ابنها الأخير بظروف غامضة!

ولم يكتفوا...

بل فرضوا عليها أن تظهر في المحافل العامة بذات الأناقة والخيلاء...

ونفذت أمرهم!

لكن الحزن الكامن فيها كان أقوى من قدرتها على تغليفه بثياب البهجة المزيفة، وانفضح أمرها عندما داهمها الحزن ذات يوم في أحد مجالس أُنسهم، فألقيت في السجن لأكثر من سنتين، ثم أخرجوها بهذه الحالة!

أشار (محمد عمران) بطرفه إلى الرجل الجالس عند باب مكتبها:

ذلك هو خادمها (عبد علوان) ...لكنه مجردٌ من الفَرْعَنة!

يومها عدت إلى البيت مُتْعَباً لطول الطريق الذي قطعته مشياً على الأقدام...وجلست اتابع على شاشة التلفاز تكريم (السيد الرئيس!) لرجل ستيني، لأنه أبلغ المنظمة الحزبية عن ابنه الهارب من الحرب، ونفذ أمر المنظمة بحضور حفل الإعدام الذي جرى وسط الحي، وإطلاق النار على ابنه بنفسه في ساحة الحي، أمام أمه وأخواته وأخوته وحشد من أهله وأصدقائه، بعد أن علق في عنق ابنه لوحة كتب عليها (جبان خائن)!

تَلَفَّتُّ يميناً وشمالاً قبل أن اطلق آهة سخط بحضور صغاري، لأني لن انسى وجه زميلي في الدراسة (كعود الدليمي) مدرس الرياضيات الساخر، الذي أُعدم يوم زيارة السيد الرئيس لبيتهم في (أبو غريب)، لأن ابنته ذات الأربع سنوات حال رؤيتها لـ(الرئيس) وهو يباغتهم بالدخول عليهم إلى البيت الذي أحاطت به كتيبة (حماية الرئيس) ...قالت:

هذا الذي كلما يظهر على شاشة التلفاز يبصق عليه أبي!

يعتصر قلبي في كل مرة تعود زوجتي من زيارة إلى (أم سلام) التي هجرت بيتها وهجرها عقلها، بعد أن دسوا السم في استكان الشاي لـ(أبي سلام) القاضي المتقاعد، لأنه رفض الاعتراف على أسماء من شاركوه في المظاهرة المناوئة للسيد الرئيس التي (حَلِمَ) بها ذات ليلة بعد مقتل ابنه (سلام) في جبهات الحرب!

ذلك (الحُلم) الذي تسرب عن لسان زوجته (أم سلام) لجارتها، التي خشيت على أولادها من تبعات إخفاء (الحُلمِ المعارضِ) عن السلطة، فأخبرت المنظمة الحزبية به...في ذات اليوم اقتادوا (أبي سلام) ليلاً إلى زنزانة التعذيب ليكشف لهم عن (أسماء من شاركوا معه في الحُلْمِ المعارض للسلطة!) وعندما لم يعترف على (أسماء من شاركوه في الحلم المعارض!) ...

أعادوه في الصباح إلى البيت، ليقضي نحبه في المساء! 

وانا في أوج آلامي لم ينقشع عن ذاكرتي دخان سأم جاري (الأستاذ أبو نزار) لكثرة استدعاءاته واستجواباته شبه اليومية بمديرية الأمن في (منطقة البياع) بعد ما أفرغ أحشاءه المعلوماتية أمامهم عما (يعرفه) و(لا يعرفه!) عن رفاق وأصدقاء الأمس، لنبش قحفة رأسه بحثاً عن نواياه الـ(خفية) المعارضة للسلطة!

فبعد أن كان يستجوب بسبب أفكاره الشيوعية سنوات عديدة، صار يهرب من كل فكر متسائل يسارياً كان أم يمينياً!

والتجأ إلى المسجد (يصلي فيه الفروض الخمسة وحده، خلف إمام الجامع، ويجاهر بيقينه بكل ما يقوله الله عن لسان خطباء السلطة)!

بعد أشهر من التعبد استدعي ذات نهار بتهمة العلاقة بالجماعات الإسلامية المعادية للسلطة، وأمضى أشهراً تحت التعذيب والشك بولائه للرئيس وللحزب القائد، فخرج مهزوماً!

ولم يجد أمامه من ملاذ سوى (إدمان الخمر في بار بشارع أبي نؤاس يرتاده رجال الأمن!)، وذات يوم جيء به مخفوراً إلى الأمن بـ(تهمة السكر في رمضان!)، وبعد حفلة تعذيب وإذلال باسم الدين خرج معتزلاً في حجرة مهجورة في بيته يحاور نفسه!

ضاقت عليه أنياب اليأس ونبذه أقرب الناس إليه له، خشية من الابتلاء بما أبتلي به...

أمضى دهراً في معزله... تطرق بابه (المنظمة الحزبية) كل أسبوع للتأكد من عدم هروبه من تحت قبضتهم...

منذ ذلك الوقت لم يخرج (الأستاذ أبو نزار) من حجرته، حتى ضاقت به السبل وأعيته الحيلة ونضب فكره من أي جرعة حَلٍّ يعيد إحياء الأمل في نفسه!

انتابه شعور عميق بالهزيمة امام نفسه بعد ان تمكن (عناصر الأمن) من دحر ارادته ومسخ شخصيته بالتخويف والإذلال، مما جعله يستسلم لليأس المطبق ويقدم على الانتحار غير مرة! ذات يوم ذهب مبكراً الى مديرية الأمن (متخادماً...دون طلب منهم للتجسس على من بقي في الوطن من رفاق وأصدقاء الأمس...ليستريح!)، فرفضوا عرضه باستخفاف واحتقار أول الأمر، للإيغال في إخضاعه والاستهانة به، وبعد توسله بهم، اطمأنوا الى انه افتقد (مرغماً!) مقومات توازن عقله وسلوكه، ولاختبار مدى قهرهم له وانهياره أمامهم وإذعانه لهم...اشترطوا عليه أن يبدأ بـ(التجسس على أفراد أسرته وأبنائه وبناته الشباب)!

لاذ بالصمت وعاد إلى المنزل مذعوراً، فيما سربت (المنظمة الحزبية) لأسرته وللمقربين منه خبر تواطئه مع الأمن للتجسس على أولاده وزوجته!

فاضطربت حياة الأسرة وتنافروا فيما بينهم...

وتوفي (الأستاذ أبو نزار) بالسكتة الدماغية وحده في حجرته، بعد أيام قليلة من ذلك اللقاء المهين...ذات الحجرة التي كان يشكو لزوجته:

إن حجارتها ذات عيون جاحظة تحدق فيه وتترصده، وحيطانها تزحف عليه في الليل، وهو يصارع فيها أنياب الكآبة التي افترسته!

تركت الأسرة منزلها في المحلة التي كانت تسكن فيها منذ سنوات طويلة، مهاجرة إلى جهة مجهولة لمن يعرفهم! 

 

 في تلك السنوات العقيمة إلاّ من قول وفعل الشر، اشاعت السلطة الشك في النفوس، والخوف بين الناس، وصار المرء يشك بنفسه: أنه ربما انفلت من لسانه لفظٌ، أو بدت عن جسده حركةٌ توحي بعدم الولاء للقائد والسلطة "دون وعي منه"!... فَيُحَذِّرُ نفسه من نفسه، ويخاف من نفسه على نفسه...بذلك أنزلت سلطة الاستبداد بالبشر في الدنيا الفانية!، ما توعدهم به الله في آخرته الباقية!:

(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)!

لكن في دولة الخوف تعمق الوعيد وصار:

(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يُفَكِّرون)!

 

عدت إلى سريري منهك القوى، لكن النوم فارقني، وتعاقبت عليَّ حكايات تلك النفوس المُخَرَّبةِ اليائسة البائسة، سواء تلك التي غادرت دنيانا أو التي مازالت تتلظى ألماً وندماً وخوفاً...

 

فانسللت عن صخبها بصمت، مُلتجئاً إلى دفتري، كي لا يتفجر عقلي في رأسي ...وكتبت:

"نقطة تفتيش" في رأسي!

نقطة تفتيش في رأسي...يسألني فيها "منكر “و"نكير":

أنّا تأتيني الفكرةُ!؟

ولماذا تأتيني الفكرةُ!؟

******

نقطة تفتيش سادرةٌ تُلْحِنُ بين البصرةِ والكوفةِ!

نقطة تفتيش شائكةٌ بين الطبشور وأحداق الصبيَة!

نقطة تفتيش صاخبةٌ بين الموّال وحَقلِ العَنْبَرِ!

نقطة تفتيش داميةٌ بين (نشيغ) رضيعٍ جائع، وشخير الأم المذبوحة!

نقطة تفتيش خانقةٌ بين الآهةِ والآهةِ!

نقطة تفتيش جائرةٌ بين الدمعةِ ورغيفِ الخبزِ الخاوي!

نقطة تفتيش شامتةٌ بين الجثثِ المنثورةِ والمقبرةِ المُشْرَعةِ المَدَياتِ!

نقطة تفتيش حالكةٌ بين طيورِ "الحضرةِ" وسماء الله المحتلةِ!

نقطة تفتيش راسخةٌ بين الجثةِ والجثةِ!

نقطة تفتيش عالقةٌ بين فراتِ النَخْوَةِ والناعورِ المخلوعِ الأضلاعِ!

نقطة تفتيش فاسقةٌ في محرابِ المسجدِ!

نقطة تفتيش قاتلةٌ في أرحامِ النسوةِ!

نقطة تفتيش سافيةٌ بين الأنَّةِ والكلمةِ!

********

نقطة تفتيش في رأسي...تُسْألُ فيها النُطفةَ قبلَ الصيرورةِ... عن مَحضَ نوايا سخط!

نقطة تفتيش في رأسي...تَسْألُ عن أهواءِ الفكرةِ قبلَ نُشوء الفكرةِ!

نقطة تفتيش في رأسي...تَسْألُ عن جنس الأحلام اللاّئي في رحمِ الغيبِ!

نقطة تفتيش في رأسي...تَسْألُ عن أي عيونٍ تَرضعُ منها الفِكرَةُ!

نقطة تفتيش في رأسي...تَسْألُ عن أي جذورَ جاءت منها الزَفْرَةُ!

نقطة تفتيش في رأسي...تَسْألُ عن أفكارٍ من ذات قبيلتها تقطن في بعض رؤوس المعدومين بغازات السلطة!

نقطة تفتيش في رأسي...تَسْألُ عن ومضٍ أيْقَدَ في الروح رفيف الفكرةِ!

نقطة تفتيش في رأسي...تَسْألُ عن حرف أغوى الإنسان إلى شيطان الشعر!

نقطة تفتيش في رأسي...تَسْألُ عن غيظٍ مكظوم...حتى الترتيبِ العاشرِ من أصلاب الأهلِ!

نقطة تفتيش في رأسي...تَسْألُ عن نخلٍ يُمطِرُ طَلْعاً...بات رحيقاً للفكرةِ!

نقطة تفتيش في رأسي...تَسْألُ عن دجلةَ...ماءُ الفِردَوسِ الصار قبوراً لحروف الفكرة!

*****    

تُقْتادُ الفكرةَ في طور التكوين إلى أقبية الإجهاض...

تُشحَذُ فيها صنّارات التعذيب بآلاء الليل الراقد في أحضان الاستفهام الغامض...

يُستَجوبُ فجرَ الخصب ألـ...يَقْطرُ نُطَفاً وغيوماً حُبلى بسنابلَ سَبعٍ خُضْرٍ!

*****

يَتساءلُ سفّاحٌ في قحفة رأسي...يكتمُ أبوابَ الذاكرةِ المذعورة:

كيف تجيئُ الفكرةُ رغمَ حشودِ القطعانِ المسحولةِ للجَزْرِ؟!

ولماذا تأتي الفكرةُ في أوقاتِ سباتِ السلطان؟!

من أفلتَ هذا الرأسَ المُدْمن صُنعَ الأفكار ألـ.... تمطر عُشقاً وبيادر؟!

أوَ هذا العقلُ المُقفَل بنقاطِ التفتيش يصيرُ وعاءً للفكرةِ؟!

*******

يستدعي الذبّاحُ الساخطُ من رأسي بَعضَ وحوشَ "المارينز"...

يأتيهِ المَددُ الطاغي من كلِّ كهوف التاريخ العربي المُعْتَلِ الآخرِ...

يتعاظمُ جيشُ الإحباطِ المنصورِ على أشلاءِ الفكرةِ...يتكاثر كالجرذان بِجُحرِ القائد!

******

تنبثقُ الفكرةُ من وَجَعِ الإنسانِ الصابر بالحرثِ...

تغدو إعصاراً...رعداً...

يَسفي عُهْنَ الخوفِ الراسخِ فينا من صَرختنا الأولى...لأنين الفكرةِ في أقبية الاستجواب الكائن في نبض النطفة!

تَبزغُ في ليل المحرومينَ ضياءً..

خِصْباً...

سَيلاً يَجرفُ كلَّ نقاطِ التفتيشِ المُمْتَدَةِ من روحي لشوارعِ بغداد المُحتلةِ!

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.