مقالات وآراء
مداخلة برسم صديقي البغدادي "الأصيل"!// علاء اللامي
- تم إنشاءه بتاريخ الثلاثاء, 25 تشرين2/نوفمبر 2025 11:41
- كتب بواسطة: علاء اللامي
- الزيارات: 520
علاء اللامي
مداخلة برسم صديقي البغدادي "الأصيل"!
علاء اللامي*
خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة، وحتى قبلها بزمن معتبر، قد يمتد لسنوات الاحتلال الأميركي الأولى، عادت نغمة البكاء على بغداد الأصيلة والبغداديين الأصلاء في مقاربة لافتة لظاهرة تفشي الكراهية للعراقيين الريفيين الواردين على مراكز المحافظات هربا من شظف العيش والبطالة وغيرها من ثمار العهد الجديد. كما برزت ظواهر ازدراء هؤلاء ومعاداتهم وممارسة التمييز ضدهم واعتبارهم مجرد "لفو" بما قد يعني لاجئين أو طارئين لا مكان لهم بين أهل المدينة الأصلاء. وكلمة "لفو" عربية فصيحة من الفعل "لفأ" وتشير إلى الحقير والخسيس والشيء القليل والتراب. وربما برزت هذه الحالة في البصرة أكثر من غيرها. ويُعتقد أنها استعملت لأول مرة من قبل محدثي النعمة في دول الخليج العربي ضد العمال المهاجرين من دول عربية كاليمن والسودان ومصر. ووردت في مثل خليجي يقول "عيال بطنها بين اللفو وطرش البحر" وتستعمل كلمة "اللفو" وعبارة "طرش البحر" بالتناوب وبذات الدلالات السلبية.
وفي بغداد، نشطت ظاهرة رثاء البغددة والبغداديين الأصلاء بعد أن غزاها الريفيون من ضواحيها ومن المحافظات. وكانت هذه المرة برنة أقوى بعد فوز القوى والأحزاب الطائفية التقليدية وفشل القوائم والشخصيات التقدمية التي يسمونها "المدنية". وكتب بعض المثقفين والأدباء المحترمين والمحترمات عن اجتياح الريف والريفيين لبغداد والهيمنة عليها فيما خرج آخرون باستنتاجات خارقة عن كره يكنه عراقيون كثيرون من أبناء الأرياف والمحافظات لبغداد وللبغداديين الأصلاء. والحقيقة فليس بالإمكان إنكار كره صعاليك الطائفية والمغالين منهم بهوياتهم الفرعية الشيعية والسنية والكردية لبغداد، ولكنَّ هؤلاء لا يكرهون بغداد فقط بل يكرهون العراق كله برموزه التاريخية كلها وبملايينه الأربعين. وهذا الكره هو نتاج فسادهم وإهمالهم الإداري لبغداد الحبيبة ولجميع مدن العراق وخاصة مدنه الجنوبية الغنية بالثروات النفطية والغازية والتي تبدو وكأن زلزالا مرعبا ضربها!
أما التخلف والرجعية الحضارية والفكرية فهي ليست حكرا على أبناء الريف وربما وجدنا في تاريخ العراق أن عتاة الرجعية كانوا من المدينة وبالذات من العاصمة بغداد والقائمة طويلة وقد تبدأ بالبغدادي (الضابط العثماني والوزير المدني لاحقا) نوري سعيد وقد لا تنتهي بالريفي المتبغدد خير الله طلفاح محافظ بغداد. ولا يخلو الريف هو الآخر من هؤلاء فالتخلف والرجعية حالة مجتمعية وصفة فردية وليس وصمة لشعب أو طبقة بكاملها.
وأقول لصديقي البغدادي: "شوف لَكْ داد"... شخصياً، لم أعش في بغداد إلا سنوات دراستي الجامعية، وسافرت - هاجرت – فررت منها بعد أيام من تخرجي إلى خارج العراق، فلم أعتبر نفسي بغداديا يوما، ولم أشعر بأني كذلك أو بالحاجة لأن أكون بغداديا، بل ما أزال عراقيا جنوبيا بلهجتي وطريقة حياتي، ولا أعتقد أنهما يختلفان كثيرا عن اللهجة وطريقة حياة البغدادي أو البصري أو سائر مدننا العراقية إلا قليلا وبما يفرضه التباعد الجغرافي. أقول هذا، مع انني أشعر بحب وحنين جارفين لبغداد لأنني عشت فيها سنوات شبابي وأرتبط بها بذكريات هي الأبهى.
*انثربولوجياً، لا أدري ماذا تقصد يا صديقي أو صديقتي بالأصالة؟ أهي القِدم والعمر الطويل للمدينة؟ ولكن ثمة مدن جنوبية أقدم من بغداد كالكوفة والبصرة اللتين مُصِّرَتا "أسستا" قبل بغداد كما هو معروف، وثمة مدينة "الحيرة" الأقدم منها ومن الكوفة والبصرة.
*هل تقصد العطاء الثقافي والأدبي والفني وغالبية المبدعين الذين تفتق إبداعهم فيها جاؤوا من المحافظات والريف. ثم أين تضع مدينة الثورة - الصدر؛ أهي جزء من بغدادك الأصيلة منذ ثلاثة أرباع القرن تقريبا، أم من الريف الجنوبي؟ وأين تضع المبدعين البغداديين من هذه المدينة المليونية الواقعة في محيط ضواحي واحواز بغداد القديمة، وهم كثر كما تعلم؟
نعم، في بغداد أصالة العصر الذهبي العباسي وذكريات النضال الطبقي والوطني في بدايات القرن الماضي وحتى إسقاط الحكم الملكي، ولكن هذا ليس ملكا لبغداد وحدها بل للذاكرة العراقية الجمعية أي للكل مواطن العراقي. وفي بغداد انفرد أساطين غناء المقام العظام ولكنه اليوم يكاد أن ينقرض لولا أن تداركته الجنوبية الكربلائية فريدة محمد علي إلى جانب اسم أو اسمين آخرين!
*إن ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدينة ليس ظاهرة عراقية فحسب بل هي عالمية وقديمة وهي ليست حكرا على بغداد، فكركوك التي كانت ذات غالبية سكانية تركمانية حتى خمسينات القرن الماضي. ثم شهدت هجرة كبيرة لفلاحي الريف الأكراد إليها مع اكتشاف النفط حتى تساوى الأكراد بالتركمان والعرب أو كادوا.
*ثم بيني وبينك، هل لدينا في العراق أو في عموم المشرق العربي والإسلامي مدينة بالمفهوم السوسيولوجي "العلم اجتماعي المديني" والحضاري الحداثي - ربما مع استثناءات قليلة وجديدة في تركيا ومصر- أعني؛ مدينة قائمة على استراتيجية عمرانية ومؤسساتية وثقافية عامة وراسخة، أم هي مجموعة أحياء عشوائية تنمو وتتسع بالتدريج لتتحول لاحقا الى مخلوق مديني مركب ومتداخل حول بلدة فقيرة صغيرة خلفها الأتراك العثمانيون وراءهم. ألم يأتي أغلب المتباكين على البغددة وبغداد الأصيلة اليوم من الأرياف المحيطة ببغداد والمحافظات القريبة والبعيدة؟ هل تريد أن نراجع الأسماء المعروفة؟
أعتقد أن مَن قرأ رائعة عبد الرحمن منيف "أرض السواد" أخذ فكرة واضحة عن بغداد في عهد المماليك العثمانيين والتي لم تكن أكثر من ثكنة "قشلة" للقوات العثمانية، ومركز لإدارة وتوجيه لهذه القوات التي تقوم في كل ربيع بعدد من الحملات العسكرية على الأرياف غربا وجنوبا وشمالا لجمع الأتاوات والضرائب من الفلاحين والرعاة وتشتبك في قتال دوري مع القبائل العربية العراقية ثم تنسحب إلى داخل أسوار البلدة التي نسميها بغداد.
بغداد كما يصفها منيف، لم تكن تضم أكثر من المركز الإداري وقصر متواضع للوالي وقهوتين أو ثلاث؛ واحدة جانب الكرخ وأخرى على جانب الرصافة، وأحياء متباعدة وصغيرة أما أول شارع فيها والذي نسميه اليوم شارع الرشيد فهو ليس إلا طريق ترابي ممهد أنشأه أول مرة خليل باشا حاكم بغداد وقائد الجيش العثماني وسمي باسمه (خليل باشا جادة سيتي)، وافتتح في 23 يوليو/تموز 1916، ويمتد من الباب الشرقي إلى باب المعظم. وما يزال يمثل سرة بغداد. وتطورت بغداد واتسعت وأمست عبارة عن مدن عشوائية متلاصقة أ فهذه هي بغداد التي تقصدها؟ أم تقصد بغداد العباسية المضاءة ليلا والمزدحمة بالسكان والأسواق وعاصمة الثقافة والترجمة والتأليف والفنون والتي اختفت من الوجود وبقيت وشما في الذاكرة الجمعية؟
هل نحن حقا بحاجة إلى المزيد من الاستقطابات الهوياتية الفرعية التي مزقت مجتمعنا إضافة الى الهويات الفرعية الطائفية والعشائرية التي استيقظت وأوقظت عمدا من سباتها وغفوتها بعد الاحتلال الأميركي لنضيف إليها هويات مدينية أخرى؟
ومتى؟ في وقت تتصاعد في دعوات مثقفين كثر وخصوصا من دعاة الحداثة والليبرالية الجديدة إلى تسييد الرؤية الكونية وإطراء المواطن العالمي، وتكرار النشيد الكوزموبوليتي المثير للسأم حول العالم الذي صار قرية كبيرة (قرية كبيرة يديرها بالتهديد والوعيد والحصارات والضربات الجوية عجوز نرجسي مهووس ومسلح بآلاف القنابل النووية يتباهي بأنه قادر على إفناء البشرية كلها عدة مرات من أجل عظمة أميركا)؟ فماذا دهى ليبراليينا إذن يسيرون عكس تيارهم الأم فيدافعون عن أصالة بغدادية وأخرى بصرية وثالثة موصلية بوجه الغزاة الحفاة "اللفو" القادمين من وراء البساتين وحقول النفط والغاز؟
*كاتب عراقي


