مقالات وآراء
جواد كاظم محسن: رحّالة في دروب الذاكرة والتراث// محمد علي محيي الدين
- تم إنشاءه بتاريخ الأربعاء, 26 تشرين2/نوفمبر 2025 11:29
- كتب بواسطة: محمد علي محيي الدين
- الزيارات: 424
محمد علي محيي الدين
جواد كاظم محسن: رحّالة في دروب الذاكرة والتراث
محمد علي محيي الدين
في مدينة المسيب، تلك الحاضرة النائمة على كتف الفرات، وُلِد جواد عبد الكاظم محسن في الثامن والعشرين من آب عام 1954، ولم يكن يعرف آنذاك أن تلك المدينة الوادعة ستغدو لاحقًا قصيدةً طويلة يسكب فيها روحه، ومتحفًا صغيرًا يملأ رفوفه بحكايا الناس، وسير العلماء، وأصوات الخطباء، ومآذن المساجد، ودفاتر النساء الكاتبات اللواتي سُرق حضورهن من الضوء.
نشأ جواد بين دفء الجنوب وملح الأرض، ودخل مدارس المسيب، ثم امتدّت خطاه إلى كلية الإدارة والاقتصاد في جامعة بغداد، حيث تخرّج منها عام 1972، لكنه لم يُسلِّم قلبه يومًا للأرقام، بل كان مأخوذًا بالقصيدة، مأخوذًا بالحرف وهو يتشكّل على الورق كبرعم في الربيع. فكتب الشعر، وسطر القصة، وتوغّل مبكرًا في عالم النشر، حتى بات اسمه حاضرًا منذ مطلع السبعينيات في الصحافة المحلية والعربية.
لكن جواد، على خلاف كثيرين، لم يبحث عن الأضواء الصاخبة، بل آثر ضوء الفوانيس، ونبش الذاكرة المهملة في مدينته، فراح يؤرّخ وينقّب ويجمع ويحقق، حتى بدا وكأنه يقيم متحفًا أدبيًا حيًّا في ذاكرة المسيب، وعيون أبنائها. وبجهده الفردي، ودون مؤسسات حاضنة، أصدر ما يربو على عشرين مؤلفًا في الشعر، والقصة، والتحقيق، والتوثيق، والتراجم، كان أبرزها معجمه الضخم "معجم الأديبات والكواتب العراقيات في العصر الحديث" بأجزائه الخمسة، وهو مشروعٌ فريدٌ وقف عنده النقاد طويلًا، وأشادوا به بوصفه تأريخًا غير مسبوق لجهود المرأة العراقية في الأدب، وعملاً يوثق ما أغفلته المدونات الرسمية.
وقد قال عنه الدكتور علي حداد في إحدى الفعاليات:" لو لم يكتب جواد غير 'معجم الأديبات العراقيات' لكفاه، فقد قام بعمل لم تجرؤ عليه مؤسسات كاملة، وفتح لنا بابًا نطلّ منه على نصف الحقيقة الغائبة."
لم يكن جواد مجرد باحث يُفرغ وثائق في بطون كتب، بل كان ابن البيئة التي يكتب عنها. فقد أسس جريدة عروس الفرات، ومجلات أوراق فراتية، العشرة كراسي، وآفاق فراتية، وكانت كلها منصّات لرفع الصوت المحلي، والتراث المنسي، والأدب غير الرسمي، مما جعله في أعين النقاد "صوت المدينة"، كما وصفه أحدهم، و"ضمير المكان"، كما نعته آخر.
الناقد جاسم العايف قال عنه في مقال له:" يكتب جواد كاظم محسن بروح الشاهد الذي عاش الأحداث، لا بروح الناسخ البارد، إنه يُعيد للأمكنة الصغيرة نبضها، وللأسماء المنسية حضورها."
ويُعدّ جواد من القلائل الذين حافظوا على هوية المدن الصغيرة من الذوبان في عمومية الخطاب الثقافي، فكتبه مثل السفر المطيب في تاريخ مدينة المسيب، ودليل المسيب العام، ومن تراث المسيب الشعبي، ومجموعته القصصية العرافة، كلها أعمال تحمل نبض المكان، ولهجة الإنسان العادي، وروح المرويات الشعبية التي تقاوم النسيان.
وقد كتب عنه الصحفي والناقد عدنان الفضلي في صحيفة "النور" قائلاً: يمتلك جواد عبد الكاظم محسن حسًّا ريفيًا عميقًا، لكنه ينقله إلى المتلقي بقلم مثقف كبير، يبرع في المزج بين الحكاية الشعبية والرؤية البحثية المحكمة."
أما شعره، فهو مرآة داخلية لعالمه الحميم، إذ يقول الشاعر محمد حسين آل ياسين عن ديوانه ترانيم الصبا:" قصائد جواد كاظم محسن، وإن اتكأت على البساطة، فإنها تُخفي وجعًا عميقًا، وتُحسن التعبير عن مشاعر الإنسان العادي بلغة لا تُفسدها الزخارف."
وفي كتابه كما رأيتهم، لم يكتب عن الآخرين فحسب، بل كما قالت الكاتبة بشرى الهلالي:" هو لا يكتب عن الآخرين فحسب، بل يكتب بهم؛ بذاكرتهم وصمتهم وسيرهم، وكأنه يشفق من أن يطويهم النسيان."
ويكاد لا يمر عام إلا ويُهدي جواد المكتبة العراقية عملًا جديدًا، بطبعة أولى أو منقحة، في دلالة على استمراره الدؤوب، ووفائه للمكان والناس. ومن أحدث كتبه: مهدي النجم، قراءات في إصدارات حديثة، كما رأيتهم بأجزائه، ومؤلفات عديدة أخرى توثق للمدينة، والأدباء، والموروث، وحتى الشهداء.
وقد لخص الناقد عبد الأمير المجر هذا الدور بقوله:" في زمن يتسابق فيه البعض على النجومية، آثر جواد أن يكون نجم مدينته. لم يغادرها في الكتابة، فغدت هي مدينته وهو مؤرخها الشعري."
إن هذا الرجل الذي تماهى مع مدينته حدّ الذوبان، لا يُمكن أن نقرأه من دون أن نسمع بين سطور كتبه خرير نهر الفرات، وصوت المؤذّن في جامع المسيب الكبير، وهمسات النساء في أسواقها، وبكاء الأطفال في مدرستها الأولى. إنه مؤرخ الشعور، ومُدوّن الذاكرة، ورفيق القصائد التي وُلدت من رحم التراب.


