مقالات وآراء
استراتيجية القراءة والكتابة// رانية مرجية
- تم إنشاءه بتاريخ الخميس, 27 تشرين2/نوفمبر 2025 19:19
- كتب بواسطة: رانية مرجية
- الزيارات: 212
رانية مرجية
استراتيجية القراءة والكتابة
رانية مرجية
في عالمٍ تتصارع فيه الأصوات، وتضيع فيه المعاني بين صخبٍ لا يهدأ، تظل القراءة والكتابة هما النافذتان الأخيرتان اللتان نطلّ منهما على ذواتنا؛ نافذتان نطلّ منهما لا لنهرب من العالم، بل لنعود إليه بأكثر وعيًا، وأشدّ حضورًا، وأعمق قدرة على الفهم والمسامحة.
لذلك، حين نتحدث عن استراتيجية للقراءة والكتابة الإبداعية، فنحن لا نتحدث عن مهارة تقنية، ولا عن خطوات جامدة.
نحن نتحدث عن طقس داخلي، عن رحلة تبدأ من القلب قبل العقل، ومن الجرح قبل السطر.
القراءة والكتابة، في معناهما الأصيل، ليستا عملًا ذهنيًا، بل عملًا روحيًا.
أولًا: القراءة كفعل نجاة
القراءة، في معناها الجوهري، ليست هواية. إنها طريقة لكي نحافظ على أنفسنا من التفتت.
نقرأ لأن داخل كل واحدٍ منا طفلًا خائفًا يريد أن يفهم العالم. ونقرأ لأن داخلنا إنسانًا بالغًا يريد أن يسامح هذا العالم. ونقرأ—أحيانًا—كي نجد مرآة نرى فيها وجوهنا كما هي، بخدوشها وضعفها، لا كما يريد الآخرون رؤيتها.
القراءة التي تغيّر الإنسان ليست تلك التي تملأ رأسه، بل تلك التي توقِظ قلبه.
القراءة الحقيقية لا تجيب، بل تسأل.
لا تُطمئن، بل تُربك.
لا تُسكِت الروح، بل تُثير فيها رغبة في أن تحيا أكثر.
إن استراتيجية القراءة الإبداعية تقوم على الإصغاء:
الإصغاء إلى النص، إلى العالم، وإلى ما يتسرّب من أصوات داخلنا عندما نصمت ونفتح كتابًا.
ثانيًا: الكتابة كعودة إلى الذات
الكتابة فعلُ مقاومة صامتة. مقاومة ضد النسيان، وضد التلاشي، وضد القسوة المفرطة التي يفرضها الزمن.
نكتب كي نقول لأنفسنا:
“لقد كنتُ هنا.”
“وهذا ما شعرتُ به.”
“وهذا ما لم أقدر على قوله بصوتٍ مسموع.”
الكتابة الإبداعية ليست استعراضًا لغويًا، بل حوارٌ مع الجرح. وهي لا تُولد من معرفة كاملة، بل من نقصٍ نحمله ولا نعرف كيف نملؤه إلا بالكلمات.
استراتيجية الكتابة الإبداعية ليست البحث عن نصٍ جميل… بل البحث عن صدقٍ موجع. ذلك الصدق الذي يجعل الكاتب يشبه البشر، ويشبه ذاته، ويشبه الحقيقة التي يهرب منها الناس.
الكتابة التي تبقى ليست تلك التي تُرضي الجميع، بل تلك التي تضع يدها على قلب واحد، قلبٍ كان يبحث عن كلمة تشبهه، وتفهم وجعه، وتقول له:
“أنا هنا… أنت لست وحدك.”
ثالثًا: العلاقة بين القراءة والكتابة
لا توجد كتابة بلا قراءة، ولا قراءة عميقة دون كتابة داخلية سرّية يقوم بها العقل والروح.
القراءة تمنح الكاتب اللغة. لكن ما يمنح الكتابة معناها هو الوجدان. الكاتب الذي لا يقرأ يكتب نصًا بلا جذور. والقارئ الذي لا يكتب—ولو في داخله—يفقد جزءًا من أثر القراءة ومن عمقها.
الرابط بين القراءة والكتابة يشبه الرابط بين الشهيق والزفير:
القراءة شهيقٌ ندخل به العالم إلى صدورنا،
والكتابة زفيرٌ نعيد به للعالم صورة جديدة عنه… وقد اختلطت بقلوبنا.
رابعًا: القراءة والكتابة في زمن يضجّ بالأسئلة
في زمنٍ تتكدّس فيه المعلومة وتتراجع فيه الحكمة، تصبح القراءة فعل تأمل، والكتابة فعل إعادة ترتيب للمشهد الإنساني.
نحن نقرأ كي لا يتحوّل الإنسان في داخلنا إلى ظلّ. ونكتب كي لا يتحوّل صوتنا إلى صمت.
إن الاستراتيجية الإبداعية في هذا الزمن لا تقوم على الكم، بل على العمق. لا تقوم على السرعة، بل على التباطؤ. لا تقوم على إرضاء الذوق العام، بل على مواجهة الذات بلا خوف.
خامسًا: القراءة والكتابة كطريق إلى الشفاء
من يكتب يضع روحه على الطاولة. ومن يقرأ يضع قلبه في يد كاتبٍ لا يعرفه. هذا اللقاء، بين النص ومن يتلقّاه، هو شكل من أشكال التعافي. نلتئم حين نقرأ، وننفتح حين نكتب. وهذه الحركة بين الانغلاق والانفتاح هي ما يجعل الإنسان قادرًا على الاستمرار. ليس المطلوب إذن أن نكتب نصًا جميلًا، بل أن نكتب نصًا صادقًا.
وليس المطلوب أن نقرأ كتبًا كثيرة، بل أن نقرأ كتابًا واحدًا كما لو أننا نقرأ أنفسنا.
خاتمة
القراءة والكتابة ليستا عادتين… إنهما حياة ثانية، حياة نختبر فيها ما لا يسمح لنا الواقع باختباره. حياة نتدرّب فيها على الإصغاء، وعلى الصبر، وعلى أن نرى الجمال حتى في العتمة.
من يقرأ جيدًا، يكتب جيدًا. ومن يكتب بصدق، يعيش بصدق. وهذه وحدها، لمن يعرف قيمتها، استراتيجية كافية لنجاة الروح


