قراءة في التجربة الشعرية النثرية للشاعر السرياني كريم إينا// محمد حسين
- تم إنشاءه بتاريخ الأربعاء, 26 تشرين2/نوفمبر 2025 11:35
- كتب بواسطة: محمد حسين
- الزيارات: 516
محمد حسين
الكتابة كبحثٍ عن البياض:
قراءة في التجربة الشعرية النثرية للشاعر السرياني كريم إينا...
محمد حسين
ناقد عراقي
"شكر وعرفان "
أشكر الشاعر والناقد د. محمد حسين من كركوك لنشر ورقته النقدية في مجلة نخيل عراقي عن مجموعتي الشعرية" أمواج لإقتناص البياض" منساباً برؤية جدية وتجربة إنسانية بحد ذاتها مع وافر التقدير والإحترام...
كريم إينا
تمثّل تجربة الشاعر السرياني كريم إينا، كما تتجلّى في مجموعته ذات العناوين المتنوّعة مثل حياتنا كالكرة، زهرة البيبون، نفحة الكارينا، أمواج لاقتناص البياض، سفر يصرخ من الأعماق، وغيرها من العناوين التي تشكّل جسد تجربته الشعرية، محاولة جادّة لإعادة بناء حساسية نثرية تشتغل على تحويل اليوميّ والعابر إلى مادة جمالية، وعلى إعادة صياغة العلاقة بين الإنسان ووجوده المتحرّك في عوالم متعددة، يجتمع فيها الإرث السرياني برهافة الشعور الحديث. إن النصّ عند كريم إينا لا يتقدّم بصفته خطاباً شعرياً فحسب، بل بوصفه حالة تأمّل وجودية تنفتح على الذاكرة والهوية واللغة والعالم، وتنطلق من الحدث البسيط لتلامس ما هو أنطولوجي وعميق. تشي العناوين التي يختارها الشاعر بأن كل نصّ يشكّل عتبة رمزية تقود القارئ إلى جوهر التجربة، إذ تحمل العناوين نفسها بناءً مجازيّاً واضحاً، وتقدّم مدخلاً لقراءة البنية القائمة على الحركة والتحوّل. يشكّل عنوان حياتنا كالكرة مثلاً استعارة مركّبة للحياة بوصفها دوراناً لا ينقطع، حركةً دائمة لا استقرار فيها، ومساحةً من الاندفاع نحو مصير غير مأمون. ليس في العنوان نزعة إلى التشاؤم أو الهروب، بل فيه إحالة إلى كون الإنسان جزءاً من حركة كونية أكبر منه، دائرة لا تهدأ، ومصير يتخذ شكل كرة تتدحرج بين المسافات والزمن والذاكرة، بحيث يصبح الوجود أشبه بلعبة كونية يشارك فيها الفرد من دون أن يمتلك السيطرة الكاملة على مسارها. أما زهرة البيبون، بما تحمله من رقة شعبية ورائحة أرضية ثابتة، فتضيف بُعداً آخر للتجربة الشعرية، إذ ينتقل الشاعر من حركة الدوران الكوني إلى استنبات معنى صغير ودافئ، معنى يُستَخلَص من التفاصيل الدقيقة التي يقف عليها الشعر لكي يمنحها قيمتها الوجودية. إن زهرة البابونج بما لها من تاريخ شفائي في الثقافات المحلية تحضر رمزاً لطهارة الروح، وتعويضاً عن الخسارات، واحتواءً للألم. يظهر من خلال هذا العنوان أن الشاعر يذهب إلى الطبيعة ليعيد ترتيب العالم الداخلي، وكأن النصّ يصبح حديقةً بديلة يمكن أن يُرمّم فيها الإنسان جراحه. ويتواصل هذا التشكيل الرمزي في عنوان نفحة الكارينا؛ والكاريـنا (أو الكارينا) قد تُفهم بوصفها نسمة مشبعة بعطرٍ خاص، أو إحالةً إلى اسم أنثوي، أو ظلٍّ من ظلال الذاكرة. لكن المهم أنّ العنوان يشي بالرغبة في القبض على لحظة سريعة وعابرة، كأن الشاعر يبني نصوصه على ملاحقة ما يتبدّد، رغبةً في تثبيت ما لا يمكن تثبيته. ويكاد النص عنده يتحول إلى مساحة لالتقاط الأنفاس الأخيرة للعطر، أو بقايا صوت، أو ما تبقّى من ذكرى قبل أن يبتلعها النسيان. هنا يتحول الشعر إلى عملية إنقاذ روحي، محاولة لانتشال الروائح القديمة من موتها الرمزي. ثم يأتي عنوان أمواج لاقتناص البياض ليكشف بوضوح عن أحد أهم محاور هذه المجموعة: فكرة البياض بوصفه رمزاً للنقاء، ولإمكانية البدايات الجديدة، وللحلم الذي يفلت من اليد كلما حاولت الإمساك به. البياض عند كريم إينا ليس مجرد لون، بل حالة وجودية، وعدٌ بمساحة لم تُدنَّس بعد، أو طاقة كامنة للبدء من جديد. إن الأمواج، بما تحمل من حركة دائمة واندفاع، تُظهر أن الشاعر يدرك صعوبة الوصول إلى هذا البياض، وأن عملية (الاقتناص) لن تكون هادئة أو بسيطة، بل صراعاً بين ذات تبحث وكونٍ يتفلّت. ومن هنا تأتي الطاقة الدرامية للنصّ، حيث يلتقي الاضطراب الخارجي بهشاشة داخلية، وحيث يتحول البحر إلى مرآة تعكس خوف الإنسان ورغبته في الوقت نفسه. ويأتي سفر يصرخ من الأعماق ليكمل هذه البنية من خلال إعادة تشكيل العلاقة بين الذاكرة والكتابة. إن السفر هنا سواء فُهِم باعتباره كتاباً، أو رحلة، أو تراكماً من النصوص يحمل دلالة الانبعاث من الداخل، كأنّ الشاعر لا يكتب من السطح، بل من مكان غائر يحتاج إلى صرخة كي يصل إلى السطح. هذا العنوان وحده كافٍ للدلالة على أن تجربة كريم إينا تقوم على عمق شعوري لا يكتفي بالمشهد الخارجي، بل يحفر في طبقات الذات بحثاً عن المعنى المطمور. فالكتابة عنده عملية استخراج، أقرب إلى تنقيب أثري في أرشيف الآلام والرغبات والأحلام. إنّ مجموع هذه العناوين، وما توحي به من صور، يشكّل معماراً متكاملاً للرؤية الشعرية لدى الشاعر. فاللغة التي يستخدمها استناداً إلى روح هذه العناوين وما يستتبعه من قراءة تتجه نحو السردية الشعرية الهادئة، حيث لا تعتمد على الإيقاع الظاهر بقدر اعتمادها على إيقاع داخلي يتشكل من الانفعال والهدوء، ومن التوتر والطمأنينة. ويبدو واضحاً أن الشاعر يستثمر خلفيته الثقافية السريانية في بناء حساسية خاصة تتقدّم عبر الإنصات للعالم، والاحتفاء بما تبقّى من اللغة ككائن حيّ قادر على شفاء الروح. ولا بد أن نتوقف عند السمات الأسلوبية التي يمكن استنتاجها من هذه التجربة؛ فالبنية المجازية تحتل مركز النصّ، إذ يتعامل الشاعر مع الصورة بوصفها أداة للمعرفة لا للزينة. الصورة عنده ليست زخرفة لغوية، بل بوصلة تقود القارئ إلى طبقات المعنى المخفية. يمكن تخيّل الطريقة التي تُبنى بها النصوص: جملة قصيرة تتكئ على موسيقى خافتة، تنفتح على فضاء واسع من التأويل، ثم تنجذب إلى داخل الذات لتكشف عن منطقة جديدة من الحنين أو القلق أو الأمل. هذه الحركة الدائرية من الخارج إلى الداخل ثم إلى الخارج مجدداً تشكّل الأساس الجمالي للكتابة لديه. كما أنّ التجربة الشعرية عند كريم إينا تتسم بميل واضح نحو الوجوديّ والروحيّ؛ فهو لا يكتب عن الأشياء بوصفها أشياء، بل بوصفها إشارات لما هو أبعد. كرة الحياة، زهرة البيبون، النسمة العطرة، الأمواج، السفر، كلها تتحول إلى شفرات وجودية تحاول فكّ لغز الإنسان. وهذا ما يجعل قصائده وفق القراءة النقدية الممكنة شديدة القابلية للارتباط بتجارب القرّاء، لأنها لا تعتمد على خصوصية حكاية محددة، بل على مشترك إنساني عام. ومن الجوانب المهمّة أيضاً أنّ هذه النصوص تنتمي بوضوح إلى تقنيات الشعر النثري الحديث، الذي يقوم على تجاوز الوزن الخليلي مع الحفاظ على الطاقة الشعرية. إن اختيار هذا الشكل ليس خياراً تقنياً، بل خياراً معرفياً؛ فالشاعر يبدو وكأنه يطلب من اللغة أن تحرره من القوالب المسبقة كي يتمكن من أن يقول قلقه وتشظّيه بطريقة أكثر حريّة. وتبدو الجملة النثرية عنده مرنة وقادرة على استقبال انفعالات متعددة في مساحة قصيرة، مما يمنح النصوص إيقاعاً ينتمي إلى العمق لا إلى السطح. وإذا ما حاولنا فهم الروح العامة للمجموعة الشعرية من خلال هذه العناوين المتناثرة، يمكن القول إن مشروع كريم إينا هو مشروع بحث مستمر عن معنى الحياة في عالم تتسارع فيه التحولات. إنّ الإنسان عنده كائن معلّق بين الدوران والحنين والبحث عن بياض. قد يخسر، وقد يتعب، لكنه يظل يصرخ من الأعماق بحثاً عن حلّ أو نافذة أو حياة أخرى ممكنة. هذا الهاجس الوجودي يعطي للمجموعة وحدتها الداخلية على الرغم من تنوّع موضوعاتها وإحالاتها. في النهاية، تمثل تجربة كريم إينا، كما يمكن قراءتها من خلال هذه العناوين ورؤية الشعر التي تنبثق عنها، صوتاً مميزاً في الشعر النثري المعاصر، صوتاً يوازن بين الرمز والواقع، وبين الهدوء والصراخ، وبين البياض والظلمة. إنها كتابة تسعى إلى إعادة الإنسان إلى لغته، وتعليم اللغة أن تنصت إلى بُكاء الإنسان الداخلي، كتابة تجعل من القصيدة مرآةً ناعمة تُظهر ما تخفيه الروح، لا ما تُظهره العين. ومن هنا تأتي قيمتها الفنية: أنها تجربة لا تكتفي بوصف العالم، بل تحاول إعادة خلقه من جديد، قطعةً قطعة، كلمةً كلمة، حتى يتحول النصّ إلى فضاء يمكن للروح أن تستريح فيه.
المتواجون الان
479 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع



