اخر الاخبار:
اخبار المديرية العامة للدراسة السريانية - الأربعاء, 24 نيسان/أبريل 2024 18:10
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ارشيف مقالات وآراء

• العراق بين سجال الانسحاب الأمريكي وإستراتيجية بناء الدولة الجديدة (3 – 3)

د.علي العقابي

العراق بين سجال الانسحاب الأمريكي

وإستراتيجية بناء الدولة الجديدة (3 – 3)

 

الإدراك الاستراتيجي الأمريكي لوظيفة العراق الإقليمية والدولية

 

 شكل العراق أهمية متفردة للولايات المتحدة الأمريكية "منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في أطار الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي السابق , تبعا لموارده وموقعه الاستراتيجي. إلا أن تلك الأهمية قد تعاظمت بعد نهاية الحرب الباردة وانفراد الولايات المتحدة بالنظام الدولي ".(22) إذ أصبحت مسألة تحييد العراق أو تحجيمه "مهمة في أطار الصراع العربي الإسرائيلي , ومع بدء محادثات مدريد عام 1991 وخروج العراق مدمر البنية التحتية في إعقاب حرب الخليج الثانية كانون الثاني 1991 أبان غزوه الكويت في 2/8/1990". (23) نتيجة لمنطق أحمق وعقيم في سياسات النظام المقبور .

        كتب جراهام فولر عام 1999 كتابا بعنوان " العراق في العقد المقبل : هل سيقوى على البقاء حتى عام 2002؟" والذي يشير فيه إلى أن غزو الكويت و حدوث الهجمات الصاروخية التي استهدفت إسرائيل , والمملكة العربية السعودية , هما عاملان مهمان , لكن لا يعنيان  تجاهل القضايا الأخرى الأكثر شمولية على الصعيد الدولي , فالعراق واجه مستقبلا مضطربا موسوم بالشك , ليس حول وحدة أراضيه فحسب , بل أيضا قدرته على المدى البعيد , على بسط أي نفوذ يعتد به في ظل أي نوع من الحكومات , وذلك بسبب التصدعات الداخلية التي يعاني منها , وخاصة ما يتعلق بالطائفية والعرقية.  العراق كما يقول فولر واقع بين " خيارين , كلاهما مر, إذ أن القمع وحده هو الذي يضمن بقاء الأقلية العربية السنية في وضع الهيمنة الدائمة على سلطة الدولة, وفي ظل هذه الظروف, سيستغل الأكراد والشيعة كل فرصة للمقاومة بعنف, كلما كان ذلك ممكنا, دافعين العراق بهذا نحو أيديولوجية راديكالية, ونحو المزيد من الوحشية والمغامرات الخارجية, ولذلك فأن أي عملية تحول ليبرالي ستضمن سعي الأكراد على أقل تقدير, إلى نيل حكم ذاتي كامل, إذا لم نقل (استقلالا صريحا), كما ستضمن للشيعة كسب صوت الأغلبية في الحكومة العراقية".

(24)   بعد سقوط صدام حسين.

الحادي عشر من أيلول 2001 لم يغير كل شيء, فالمنظمة الدولية ذات الـ (193) دولة تبقى نفسها إلى حد كبير , لكن الواضح أن أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 قد أطلقت تغييرا كبيرا في العلاقات الدولية بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها ومناطق من العالم الإسلامي, وإعادة اصطفاف في الدبلوماسية, خاصة فيما يتعلق بعضوي مجلس الأمن الأكثر ابتعادا, وهما روسيا الاتحادية والصين, وحملة في المجالات العسكرية و للاستخبارية والسياسية ستتواصل سنوات, كما أن التطلع إلى الإمام في أعقاب هذه الإحداث مباشرة, مهمة شاقة, فلا أحد يعرف كم من البلدان ستنجر إلى نزاع عسكري,  وكم سيكون من باب العزاء الاعتقاد أنه أيا تكن كلفة أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001, فأن بالإمكان احتواء تداعياتها وتعلم بعض الدروس منها, وقد يشك المرء في التوصل إلى هذه الحصيلة بسهولة أو بسرعة, سيكون العالم محظوظا إذا تجاوز أثار هذه الأحداث و عالج أسبابها في غضون مئة عام.

(25)

لقد كشفت أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر بأن الولايات المتحدة الأمريكية "تسود العالم سيادة لم تبلغها أية إمبراطورية, في التاريخ القديم والحديث, وها أنها تمارس تفوقا ساحقا في ميادين السلطة الخمسة التقليدية و نعني بها: السياسي, والاقتصادي, والعسكري, والتقني,والثقافي, وقد حدا هذا الواقع بأحد المحللين الأمريكيين إلى القول إن الولايات المتحدة هي الدولة العالمية الأولى . ذلك أن لها القدرة على الإمساك بزمام الصيغة العصرية للإمبراطورية الكونية , حيث يخضع أعضاؤها لسلطانها خضوعا إراديا"

(26)

ثم تطورت الأمور إلى إحداث تغيير في العراق بإزاحة النظام السابق بالعمل العسكري والذي توج باحتلال العراق في 9/4/2003. ومنذ ذلك الحين أضحى العراق الفرصة الثالثة في بحثنا هذا وهي الفرصة الذهبية للولايات المتحدة الأمريكية للبدء في تعديل إستراتيجيتها العالمية والإقليمية لضمان النفوذ في العراق وعبر آليات سياسية – أمنية  و اقتصادية – اجتماعية.

 وتعد الفرصة الذهبية لوضع العراق في مكانه الذي ينبغي أن يوضع فيه , على أن لا يظل حبيس الأهمية لثرواته النفطية ولا لموقعه الاستراتيجي, وإنما لدوره في المشروع الاستراتيجي المنشود في المنطقة.

 لقد حدث التغيير أذن عن طريق الحرب والغزو الخارجي والذي لم يكن أسلوبا صائبا لإزاحة الديكتاتورية, لما للحرب وتداعياتها من نتائج وخيمة على أوضاع العراق ومستقبله وعلى أعماره وبناء الديمقراطية فيه. لقد كان الاحتلال المستند إلى قرار مجلس الأمن الدولي المرقم (1483- أيار 2003) وتشكيل الإدارة المدنية قد قطع الطريق على العراقيين في إدارة شؤونهم بأنفسهم وتدبير أمورهم وفقا لمصالحهم الوطنية, وكان ذلك هو المدخل – رغم كل التغييرات السياسية والقانونية – لآلاف من الأخطاء والخطايا والجرائم, التي ندفع ثمنها دما وخرابا ماديا, لم ينضب سيله حتى اليوم. لقد جاءت التحولات والتغيرات الدراماتيكية, وما رافقها من ظروف عسيرة, فرصة مناسبة لانفلات غول الإرهاب والتخريب المنظم. لقد فتح التغيير بما جلبه من فراغ في السلطة ومن تداعيات , الباب إمام صراع تنافسي غير مشروع بين القوى السياسية, صراع غير منضبط و بأساليب غير سليمة للهيمنة على مراكز الحكم الأساسية وعلى مواقع صنع القرار في الدولة العراقية . كما فتح التغيير بابا واسعا للتدخلات الإقليمية وخاصة دول الجوار في الشأن العراقي , حيث أصبحت استباحة الأراضي العراقية ظاهرة لاشك في حقيقتها حتى يومنا هذا ولو بشكل أقل عما كان عليه سابقا , حيث تدخلت معظم دول الجوار وبشكل سافر في التأثير على مجريات الصراع الداخلي وأصبحت حقيقة لا تقبل الجدل, بل وما هو أخطر وأكثر أهمية تسهيل بعض دول الجوار ودعمها أحيانا وتغاضيها المتعمد في أحيان أخرى عن تسرب المجاميع الإرهابية الأجنبية , وتوفير كل مستلزمات دعمها ماديا – لوجستيا ومعنويا. ويبرر البعض هذا برغبتهم في تصفية الحساب مع الإدارة الأمريكية, التي تعلن رغبتها في إسقاط أنظمتهم, ولكن للأسف على الأرض العراقية وبأرواح العراقيين, وفي كل الأحوال فالعراق وطنا وشعبا وأمنا واستقرارا هو الخاسر الأكبر.

لقد أعتمد النظام الدولي الراهن بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية مبدأ صيانة نسق القوة للحفاظ على التوازن السياسي والعسكري والديموغرافي, وشكل مبدأ توزيع القوة وفق نظرية توازن التوافق وتوازن الأضداد . وإزاء ذلك لابد من أن يكون العراق عنصر للتوازن والاستقرار الإقليمي بدلا من أن يكون خطرا على جيرانه كما كان أبان حقبة النظام السابق.

لقد رفعت الولايات المتحدة في مطلع القرن الحالي  يافطة الحرب العالمية على الإرهاب وتم توظيفه لضرب نظم عديدة إرهابية كتنظيم القاعدة في أفغانستان, واستنسخت الذريعة على العراق وتم تصفير قوته العسكرية وتجريده منها, وبما لا يتفق مع مفاهيم صيانة توازن القوى في المنطقة. والعقبة كانت في نظامه الدكتاتوري الذي أتسم بعدم الإدراك والغباء والارتجالية في مواجهة التحديات .

كانت الولايات المتحدة الأمريكية سابقا ومعها الغرب تنظر إلى العراق كنقطة للتوازن مع إيران, أصبح التوازن ألان مختلا وتم تحويل مجالاته الحيوية مع دول الجوار إلى تهديد مبعثر ومنتشر بين تهديدات إيرانية وتركية, والسبب يعود إلى أن عملية بناء عراق وفق المدركات الإستراتيجية الأمريكية لم تكتمل , إذ تعتقد الولايات المتحدة أن إيجاد عراق قوي غير مسموح به وقد تتكرر حالة الطيش لقادته كما فعل صدام سابقا في حروبه مع دول الجيران كإيران والكويت, وتشير مجموعة "ويكيل يكس" إلى أن الرئيس المصري السابق  مبارك قد نصح الأمريكان في حديث مع برلمانيين أمريكان عام 2008 حيث قال "عززوا القوات المسلحة وخففوا قبضتكم وعندئذ يحدث انقلاب عسكري وسيكون لديهم ديكتاتورا ولكنه شخص عادل".

(27)

مؤكدا للأمريكان بأن عليهم أن ينسوا الديمقراطية , وذلك لان  العراقيين بطبيعتهم طباعهم حادة , لذا ينبغي على الساسة في العراق فهم الولايات المتحدة جيدا والاستفادة منها لتحييد التهديدات , وتنمية الإبداع والعقل العراقي . وأن تجري عملية تقويم وتقوية للإبداع والأداء الاستراتيجي للعراق وفي محيطه الإقليمي والدولي , بحيث لا يكون ألعوبة في يد الولايات المتحدة أو دول الجوار وإنما مفتاح للجذب الاستراتيجي لمكانته وأهميته كعنصر توازن واستقرار إقليمي و دولي, ومدخل وظيفي للبناء في عصر التكتلات الاقتصادية الكبرى و ثورة المعلومات والاتصالات الهائلة .

ولكي يصبح العراق رقما لا يمكن تجاهله ينبغي ايلاء الدبلوماسية قدرا عاليا من الاحتراف والمهنية ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب, والاهتمام بالتفكير الاستراتيجي للبناء والتقدم, وأن موجة التغييرات الجيوسياسية الكبيرة في المنطقة العربية كفيلة بأن تحول جوار العراق من ذئاب طامعين بخيراته إلى أصدقاء وهذا ما سيخدم العراق في النطاق الإقليمي.

وتبعا لأهمية العراق الجيوستراتيجية أنتقد (هنري كيسنجر) وزير الخارجية الأمريكي الاسبق في صحيفة (واشنطن بوست) النهج الذي تتبعه أدارة الرئيس أوبا ما حيال إستراتيجيتها للانسحاب من العراق. وقال أن سياسات أوبا ما المتعلقة بهذا الشأن يجب أن تكون أكثر شمولية وإلا تركز فقط على كيفية الانسحاب من العراق. وذكر انه يجب أن لا تغفل واشنطن نقطة مهمة في الوقت الذي يغيب فيه العراق عن قائمة أولوياتها, وهي أن انسحاب القوات الأمريكية من العراق لن يقلل أبدا من أهمية الدولة الجيوستراتيجية, ويرى"كيسنجر" أنه ليس من مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية ترك المنطقة. وأشار إلى أن السؤال سيبقى وهو هل ينظر إلى الانسحاب الأمريكي على أنه تراجع من المنطقة أم طريقة فعالة لاستمرارها ؟

(28)

ثم عاد " كيسنجر" من جديد ليؤكد في ذات المقال أنه ينبغي عدم إهمال العراق, وأشار إلى أن لواشنطن ألان مبعوث خاص لكل الدول المؤثرة في المنطقة عدا العراق. و ألان على الإدارة الأمريكية أن تدرك أهمية الدور الذي يلعبه العراق في الإستراتيجية الأمريكية .

(29)

تنطلق السياسة الخارجية الأمريكية على الدوام  من رؤى وتصورات مدرستين متناقضتين هما "المحافظية الجديدة" ورموزها (شتراوس/هارفي مانسفيلد/جوزيف كروب سكي/فرانسيس فوكاياما/ويليام كريس تول/بول وولفيتز/أبراهام شولسكي/زلماي خليل زاده) و مدرسة "الواقعية" وابرز رموزها هم (هنري كيسنجر/زبغنيو بريجنسكي), الذين انتقدوا "المحافظية الجديدة" كونها تعتمد المجابهة والعدوان, حيث يقول بريجنسكي " لم نعد في عصر الاستعمار, وعلينا أن نستوعب ذلك , ولم يعد بإمكاننا الحديث عن (واجبات الرجل الأبيض) في نقل الحضارة إلى الشعوب الأخرى".

(30) ومن هنا يرى بريجنسكي أن العلاج للمشكلة العراقية يكمن في أن يكون "سياسيا أكثر مما هو عسكري في جوهره , و إقليمي أكثر من كونه مجرد عراقي في الإطار ".(31) وقارن بريجنسكي بين مرحلة ما بعد الانسحاب وبين الوضع القائم , مشيرا إلى أن انعكاسات الانسحاب أقل سلبية من موضوعة البقاء , ومع أن بريجنسكي لم يقلل من حالة اضطراب متصاعدة من جراء الانسحاب , إلا انه يؤكد بأن الاضطرابات المتوقعة ستكون أقل أضرارا بالمصالح الأمريكية في العالم من المقاومة المستمرة , وربما المتنامية , للوجود الأمريكي في العراق.

وانطلاقا من هذا الطرح في السياسة الخارجية الأمريكية , فهناك ثمة من يقول بأن العراق سيكون إحدى القواعد الإستراتيجية للفوز الأمريكي بقيادة النظام الدولي لأربعة عقود قادمة . إذ أن محور العلاقات الدولية القائم ألان والتحديات التي تواجه الولايات المتحدة هي اقتصادية ولاسيما من الصين والهند اللذين سيقفان كأكبر تحد للهيمنة الأمريكية في العقود اللاحقة. وأن تحييدهما يمكن بالسيطرة على أمن الموارد ولاسيما الموارد الإستراتيجية كالنفط, وحتى أن لم يكن العراق مسيطر عليه أمريكيا , فيكفي إرساء علاقة إستراتيجية معه لأمد طويل تبعا لأهميته في الإدراك الاستراتيجي الأمريكي بعيدا عن تأثيرات "الاتحاد الأوربي" في السياسة الخارجية .

لقد أتسم الموقف الأوربي من سياسة الولايات المتحدة الأمريكية إزاء العراق بالكثير من الاختلافات, سواء بين دول الاتحاد الأوربي, أو في مواقف كل دولة على حدة . حيث أنقسم الأوروبيون إلى معسكرين متناقضين, معسكر متحالف مع الولايات المتحدة تقوده بريطانيا, ومعسكر رافض للسياسة الأمريكية تقوده فرنسا وألمانيا, انتقل الرافضون إلى مواقف أخرى اقل ما يقال عنها أنها لينة مع الاحتلال الأمريكي للعراق,"لاسيما بعد انتقال زعامة البلدين من أهم مناوئين للسياسة الأمريكية وهما شيراك  وشرويدر إلى من يحاول أن يكون من المقربين للإدارة الأمريكية وهما ساركوزي  و  ميركل, واللذان أصبحا ينافسان رئيس الوزراء البريطاني براون, إن لم يتفوقا عليه في مجال التوافق مع السياسة الأمريكية إزاء العراق".(32) وكما يبدو أن من أهم المتغيرات التي أدت بأهم الدول المعارضة للمشروع الأمريكي إلى تغيير مواقفها هو المصالح الاقتصادية , ومحاولتهما للحصول على مشاريع وعقود أعمار العراق , ناهيك عن العقود النفطية التي حرموا منها وخاصة فرنسا.

إن مستقبل الإستراتيجية الأمريكية في العراق مرهون بمتغيرات عديدة تكمن في مدى قدرة الإدارة الأمريكية في مواصلتها تبني سياسة الحروب الاستباقية نظرا لما تكلفها من أعباء اقتصادية وعسكرية و أخطاء سياسية . وكذلك اتجاه الولايات المتحدة الدائم نحو ضمان هيمنتها على النظام الدولي. كما أن ازدياد التنافس بين القوى الاقتصادية جراء نمو القدرة الاقتصادية لمعظم القوى جعلها تأخذ من النسبة غير الطبيعية لسيطرة الولايات المتحدة على النظام الدولي اقتصاديا, وهذا هو الذي جعل سيطرتها تتراوح بين 24-30 % من أجمالي الوضع الاقتصادي. كما أن استمرار الولايات المتحدة بأداء أدوارها في المنطقة سيكون عرضة للتأثر بطبيعة العلاقات الإقليمية, وأكثرها تأثيرا هنا الاستقرار أو اللاأستقرار الذي سيؤثر في المصالح الأمريكية, وعلى كلفة بقاء وانتشار قواتها في المنطقة. كما أن حركة الولايات المتحدة نحو إحداث تغيير في المنطقة إجمالا والعراق أبتداءا إنما يرجع لمسألتين: الأولى هي ما نعطيه الولايات المتحدة من أهمية للمنطقة إجمالا في إستراتيجيتها العالمية والثانية رؤيتها للتأثير المتزايد في استمرار سيطرتها على المنطقة على علاقات التنافس مع القوى الكبرى الأخرى . كما أن سياسات القوى المنافسة في المنطقة ستؤثر على الإستراتيجية الأميركية في العراق (الصين/روسيا/إيران) إضافة لدول الاتحاد الأوربي. وأخيرا البعد الشعبي الذي يبرز تأثيره في هذه الأوقات كثيرا و غالبا ما يشكل ضغطا – وان كان قليلا – على الحكومات المتحالفة مع الولايات المتحدة.

(33) ولابد لنا أن نذكر هنا بالعوامل التي تقوم عليها الإستراتيجية الأمريكية وهي النفط و أمن إسرائيل و التفوق الأمريكي عن طريق سعي الولايات المتحدة على حالة التفرد الأمريكي في العالم منذ تفكك الاتحاد السوفيتي السابق, و أخيرا محاربة الإرهاب.

وفي جدلية بين متغيرين هما الانسحاب الأمريكي وبناء الدولة في العراق, طبيعة العلاقة غير المتكافئة بين الولايات المتحدة المحتلة للعراق والجانحة لانسحاب "مشروط ومسؤول" وبين عراق متناثر القوى تتقاذفه الأهواء والمصالح الضيقة. وبين تينك المتغيرين ترتسم صورة العراق في الإدراك الاستراتيجي بين بلد محنط غير قادر على الحركة أو يتحرك بالريم وت كنترول ونعني به الولايات المتحدة الأمريكية . وبطبيعة الحال فأن ما يحدث اليوم في العراق هو نتيجة لطريقة تغيير النظام عبر الحرب والاحتلال , وهذا طريقا ليس ناجعا لإزاحة النظام لما للحرب وتداعياتها من نتائج وخيمة على مستقبل العراق, كان من الممكن أن يأتي التغيير عبر وحدة القوى الوطنية في تحالف واسع ووفق برنامج واضح, ويحظى بدعم دولي مشروع ووفقا لميثاق الأمم المتحدة, يدعو إلى عقد مؤتمر وطني عام تنبثق عنه حكومة وحدة وطنية تؤمن قيادته إلى رحاب إزالة أثار الماضي والحروب وتعيد بناءه وفق مصالح شعبه. لكن هذا لم يحدث بل حدث الاحتلال, وهذا ما يعقّد الأوضاع وبناء الدولة الجديدة, دولة القانون والمؤسسات ودعم القضاء النزيه, وتحريم تجاوز الشرعية القانونية والتلاعب الكيفي بمصائر البلاد , وتفعيل مؤسسات الشرعية ودورها التشريعي والرقابي وخصوصا مجلس النواب ومجالس المحافظات ومؤسسات المجتمع المدني, ونبذ المحاصصة الطائفية واعتماد معايير الوطنية والكفاءة والخبرة والنزاهة والمهنية في بناء مؤسسات الدولة , والتأكيد على احترام حقوق الإنسان.

وعندما يتكرس الطابع الطائفي – ألمناطقي لبناء الدولة, ينشأ تناقض بين الدور السياسي التقليدي للدولة, المتمثل في تأمين ديمومة النظام المسيطر دون عوائق , و بين دورها الاقتصادي المتمثل في تأمين "الريع"  لـ  "الاقتطاعات الطائفية – المناطقية" الطامحة إلى السلطة و الثروة, والتي بدأت تحتل مواقع السيطرة على المفاصل الاقتصادية والسياسية والأمنية الأساسية. وهنا لابد من اتخاذ التدابير القانونية والرقابية الحكومية والشعبية للحد من ظاهرة الفساد ونهب عقارات وممتلكات الدولة وأموال الشعب . وإنزال العقاب الصارم بالمفسدين من كل نوع و لون, ومحاربة عصابات الجريمة المنظمة, وتهريب المخدرات, وسيكون لتحقيق انجازات على هذا الصعيد مردود نفسي وسياسي كبير على مزاج المواطنين وعلى ثقتهم بمسيرة الإصلاح والبناء.

كما يجب ومن الضروري أن تمارس سياسة خارجية نشطة, مستقلة و منتجة, في أقامة أفضل علاقات حسن الجوار , والاحترام المتبادل, و عدم التدخل في الشؤون الداخلية, ولضمان التأييد الدولي والإقليمي الفعال لوطننا في بناء العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد, وفي مكافحة الإرهاب و توفير المساعدات الضرورية و الطارئة له في مسعاه لإعادة بناء الاقتصاد الوطني, وتمكينه من العودة لممارسة دوره الطبيعي في الأسرة الدولية .

وارتباطا بمنطق الحرب عملت سلطة الاحتلال بقيادة الحاكم المدني "بريمر" على أعادة بناء الاقتصاد العراقي من خلال اتخاذ جملة من إجراءات اقتصادية, استهدفت تكييف الاقتصاد العراقي وتحضيره لمرحلة جديدة تسمح بدمجه في الاقتصاد الرأسمالي العالمي ولهذا نسمع بخطاب اقتصادي جديد يرفع رايات "الإصلاح الاقتصادي" و "الخصخصة" دون قيد أو شرط.

نعم نحن ندرك جديا حاجة الاقتصاد العراقي إلى الإصلاحات الجذرية, ولكن المشكلة تكمن في مضمون هذا الإصلاح . فما يجري الترويج له من أصلاح أنما يهدف إلى اعتماد السوق محورا للنشاط الاقتصادي وآلية لممارسته  و توجيهه, بجانب الترويج لمفهوم و ممارسة الخصخصة من دون أن تسبق ذلك دراسات جدوى حقيقية تساعدنا في عدم تضييق دور الدولة الاقتصادي. ولابد هنا من الإشارة إلى أن الاستثمار ضرورة لكل الأنظمة الاجتماعية الاقتصادية المعاصرة, وأن كل نظام في عالم العولمة يحتاج إلى جهد الآخرين , والى نقل التكنولوجيا , والى استخدام طرائق الإنتاج الحديثة وغير ذلك . وعلى هذا الفهم فأن العراق بحاجة إلى قانون استثمار, ينظم انتفاع اقتصاد البلاد من الرأسمال الأجنبي, والحصول منه على أكبر المنافع. وأن من الضروري تفهم واستيعاب الدور الذي يلعبه رأس المال الأجنبي في مستقبل التطور الاقتصادي في بلادنا, كحقيقة و بدون أية ملابسات إيديولوجية مسبقة.

 وفي مسعى لوقف نزيف الدم , وصيانة أرواح أبناء الشعب على اختلاف انتماءاتهم السياسية ومنحدراتهم القومية ومعتقداتهم الدينية و مذاهبهم , والعودة بالأوضاع في البلاد إلى طبيعتها في ظل الأمن و الاستقرار, وضمان نجاح العملية السياسية وإقامة العراق الديمقراطي الاتحادي و دولة القانون والعدالة الاجتماعية.

لابد أن تكون في الختام للأصلح في بناء العراق وقيادته بدون أملاءات خارجية أو أجندة تقوم على الطائفية وغيرها.

 

المصادر

22 – د. رياض عزيز هادي , العالم الثالث والنظام الدولي الجديد , في كتاب النظام الدولي الجديد : أراء و مواقف , مجموعة مؤلفين , بغداد , دار الشؤون الثقافية العامة , 1992 , ص 221

. 23 – د.مصطفى علوي , مصر وأزمة الخليج , كراسات إستراتيجية , مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام , القاهرة , آذار 1992 , ص 63 .

24 – جراهام فولر,العراق في العقد المقبل:هل سيقوى على البقاء حتى عام 2002, مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية,أبو ظبي,1999,ص12.

 25 – فريد هال يدي,ساعتان هزتا العالم , 11 أيلول الأسباب والنتائج , دار الساقي,ترجمة عبد الإله ألنعيمي,الطبعة الأولى ,2002,أنظر ص 183-194.

26– اينياسيو رامونيه , حروب القرن الواحد والعشرين (مخاوف و مخاطر جديدة) , ترجمة أنطوان أبو زيد , دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع , بيروت,2007 , ص 9 .

 27 – موسوعة "ويكيل يكس" المجلد الثالث , لبنان- بيروت ,2011 , ص 59.

The Washington Post , 11/9/2011 , P .3.  _ 28

_ lbid 29

30– هادي قبيسي ,السياسة الخارجية الأمريكية بين المحافظية الجديدة والواقعية ,الدار العربية للعلوم ناشرون ,أبو ظبي ,1999, ص 133.

31- نفس المصدر السابق , ص 136.

32 – د.ستار جبار الجابري,موقف دول الاتحاد الأوربي من الإستراتيجية الأمريكية في العراق,مركز العراق للدراسات,العدد 25, بغداد,2008,ص23.

33 – عبد الحميد الغانم , الإستراتيجية الأمنية الأمريكية في العراق , مركز العراق للدراسات , ندوة دمشق 24/4/2008 ,العدد 23, ص 136-140 .

 

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.