اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ارشيف مقالات وآراء

• الديمقراطية لغايات غير ديمقراطية

د. جابر حبيب جابر

 

 الديمقراطية لغايات غير ديمقراطية

 

الصراعات التي أطلقها التغيير في العراق منذ عام 2003 تشكلت على خلفيتين رئيسيتين، الأولى هي الصراع بين قوى سياسية وعسكرية تقوم على أجندة إثنية أو طائفية من أجل التأثير في صياغة الوضع العراقي الجديد بما يمنحها أعلى قدر ممكن من المكاسب والفرص والسلطة لتشكيل مستقبل البلد، أو بما يحول دون أن يحصل منافسوها على أي فرص أو مكاسب، والثانية هي خلفية الصراع بين القوى الخارجية حول من يؤثر أكثر في الوضع العراقي ومن يكون له نفوذ أكبر، بحيث يحدد شكل النظام العراقي الجديد وهويته واتجاهاته، وهذا الصراع كانت له أذرعه السياسية والعسكرية أيضا. الوجود الأميركي الكبير عسكريا وسياسيا وماليا في العراق، وما عكسه من التزام ارتبط بأعلى سلطة في الولايات المتحدة خلال إدارة الرئيس بوش، على الرغم من أنه فشل في احتواء هذه الصراعات أو إيجاد معادلة حاسمة لحلها، فقد نجح نسبيا في وضع سقف لمطامح اللاعبين الداخليين والخارجيين وفرض عليهم الالتزام بقواعد للعبة خلقت نوعا من التوازن القلق الذي لا يمكن أن يتحول إلى استقرار إلا في ظل التزام أميركي طويل، بات من الواضح أن الإدارة الحالية غير مستعدة له.

القوى السياسية العراقية الرئيسية خاضت اللعبة وهي مدركة لقلق التوازن وهشاشة الديمقراطية، أساسا لأنها كيانات غير ديمقراطية، ولا ترى في اللعبة الديمقراطية سوى التزام مرحلي، ولذلك فإنها جميعا حافظت على أذرع عسكرية ومارست العنف إلى جانب السياسة، وهي اليوم تتبارى سياسيا، والمسدس في غمد كل منها، مع استعداد للتحول إلى قواعد مختلفة للعبة إذا تطلب الأمر. جميع القوى الرئيسية الآن لها أذرع عسكرية وأجندة صراع مسلح، معلنة أو خفية، فالصدريون لديهم جيش المهدي، الذي ظهر كأقوى ميليشيا بعد الصدام الأهلي عام 2006، والمجلس الأعلى لديهم منظمة بدر، والعراقية تهدد بوضوح بأنها لا تستبعد اللجوء إلى العنف في حال لم تحصل على معادلة الحكم التي تناسبها، والمالكي متهم بأنه وظف منصبه لبناء ذراع عسكرية تابعة له وجاهزة للاستخدام في أي اصطدام محتمل مع الغرماء، إن تغيرت قواعد اللعبة، والأحزاب الكردية لديها جيش منظم ومتطور اسمه البيشمركة. الأكثر من هذا، أن جميع القوى لديها خلاياها داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية وحتى الاستخباراتية، وهي تسعى لتوظيفها في التأثير على أداء أجهزة الدولة لخدمة مصالحها، وبالتالي هناك شبكات مزدوجة الولاء لا يعرف ماذا سيكون موقفها في حالة نزاع مسلح بين تلك القوى.

أحد أهم أسباب الاستعصاء في التفاوض على تشكيل الحكومة والالتزام بالسقوف العليا من المطالب من قبل الجميع هو أن تلك القوى وداعميها الإقليميين، يدركون جيدا أنه مع تراجع الالتزام الأميركي ومع دخول انسحاب القوات الأميركية مرحلة التنفيذ، فإن الكابح الموجود أمام طموحات الفرقاء سيختفي، وبالتالي فإن معركة فرض السيطرة ستصل إلى ذروتها، حيث ستسود قواعد اللعبة الجديدة التي لا مكان كبيرا فيها للديمقراطية والانتخابات وحكم المؤسسات وغيرها من «القيم» الغريبة على المنطقة، وتصبح القيمة الكبرى هي القوة. لذلك فإن الصراع الراهن على منصب رئيس الوزراء يجري بالضرورة حول السلطات الأمنية والعسكرية التي يتمتع بها هذا المنصب، بمعنى آخر، إن الأطراف المختلفة تتنافس بشكل أساسي على قيادة القوات المسلحة، ثم بمستوى آخر، على النفوذ السياسي والمالي الذي يقدمه هذا المنصب. الاختلافات الراهنة لا تجري حول ما هو البرنامج الثقافي لوزارة الثقافة، أو الخطة التربوية لوزارة التعليم، أو المشاريع المستقبلية لوزارة الشباب، إنها تدور حول من يسيطر على مفاتيح القوة، وبالتالي يؤسس لمشروع سيطرة مستقبلية دائمة في زمن لن يكون هناك سفير أميركي فعال يذكرنا بمواعيد الانتخابات، أو إدارة أميركية معنية بنجاح الديمقراطية في العراق.

 

الديمقراطية هي لعبة تفترض نوايا سليمة والتزاما من كل الأطراف بقواعدها وأهمها التخلي عن الأذرع العسكرية وعن العنف كخيار بديل، وهي بالتالي لعبة لا يمكن أن تمارسها أطراف متربصة ببعضها وتعد العدة للإطاحة برؤوس خصومها، وأحزاب تمولها وتجمعها وتضع حدود حركتها جهات خارجية معنية أساسا بالعراق كمشروع للنفوذ والهيمنة، وليس كمشروع للحرية والتعددية، ولذلك، فإن الديمقراطية من دون حماية طرف يفوق الفرقاء الداخليين والخارجيين قوة لا يمكن أن تنجح، لأن هؤلاء الفاعلين غير معنيين بها أو ملتزمين تجاهها، ببساطة لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

 

"الشرق الأوسط"

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.