نمر سعدي في جديده الشعري "ساعي بريدِ اللهفة": شاعرٌ يواصلُ التحليق// طارق عون الله
- تم إنشاءه بتاريخ السبت, 27 أيلول/سبتمبر 2025 19:58
- كتب بواسطة: طارق عون الله
- الزيارات: 508
طارق عون الله
نمر سعدي في جديده الشعري "ساعي بريدِ اللهفة": شاعرٌ يواصلُ التحليق
طارق عون الله
الشاعر والناقد الفلسطيني المقيم في بريطانيا
بين يديَّ ديوان الشاعر الفلسطيني نمر سعدي الجديد بعنوان "ساعي بريدِ اللهفة"، والصادر عن "دار النهضة للطباعة والنشر" في الناصرة، يحتوي على 45 قصيدة موزَّعة على 72 صفحة في طباعة قشيبة وحلَّة أنيقة.
يأتي هذا الإصدار بدعم من مركز الكتب والمكتبات ووزارة الثقافة، مما يؤكد الاهتمام الرسمي بالإنتاج الأدبي المتميِّز.
وتتجلَّى في هذا العمل براعة الشاعر نمر سعدي الاستثنائية في إتقان أشكال متنوعة من الكتابة الشعرية، حيث ينتقل بمهارة فائقة بين الشعر الموزون بأنواعه سواء التفعيلة أو العمودي وبين قصيدة النثر، مما يكشف عن تمكن شعري شامل ونضج فنيٍّ ملحوظ.
في هذا العمل يطلُّ نمر سعدي شاعرًا يفيض بالوجد والرؤيا معًا، كأن نصوصه رسائل سرِّية يبعثها من منفى داخلي لا ينتهي. فليست القصائد هنا متفرقة أو معزولة، بل تشكِّل ما يشبه السيرة الذاتية الشعرية التي تتقاطع فيها العاطفة الفردية مع القلق الوجودي، ويظل الخيط الناظم بينها هو اللهفة: اللهفة إلى الحب، إلى الغياب، إلى المعنى الضائع وسط زمن يزداد انغلاقًا وقسوة.
يكتب سعدي بذاكرة مفتوحة على التراث والحداثة معًا؛ فتطلُّ علينا أسماء من طاغور إلى شكسبير، ومن الحلاج إلى أبي ذر الغفاري، كما لو أنَّ الشاعر يفتح نافذة على مكتبة الكون كلِّها، ليجعلها خلفية لاعترافاته الأكثر حميمية. هذا التناصُّ لا يأتي ترفًا، بل يضاعف من ثقل التجربة ويضع القارئ أمام نصوص تحاور التاريخ والأسطورة والفلسفة، وهي في الوقت نفسه مشغولة بجمر القلب وقلق اليومي.
اللغة عنده مشهدية مشبعة بالصور، تنبني على كثافة حسِّية وبصرية: ألوان البحر، خضرة الجليل، زرقة الكحلي، بياض الزنابق، وأجنحة الفراشات… كأن النصوص لوحات سوريالية تتجاور فيها العناصر على نحو يرهق أحيانًا لكنه يفتح أبوابًا على الخيال. الشعر عنده ليس جملة صافية فحسب، بل هو فيض متراكم من الأصداء والألوان والمجازات التي تحاصر القارئ وتغريه في آن واحد.
غير أنَّ اللهفة التي يحملها الشاعر لا تقف عند العاطفة وحدها. فالمكان يطلُّ بقوة: حيفا والقدس والجليل وغرناطة، أوطان حقيقية ومتخيلة في آن، مشبعة بالمنفى والحنين. والموت كذلك حاضر بوصفه ظلاً كثيفًا، سواء في الاستعادة المستمرة للأسماء الغائبة، أو في الحوار المتكرر مع الفقد والغياب.
أكثر ما يلفت في هذا الديوان أنَّ الشاعر يضع القصيدة نفسها موضع مساءلة. في أكثر من نصٍّ نشعر أنه يخاطب الشعر ككائن مراوغ، يتساءل عن جدواه، عن قدرته على مواجهة قسوة العالم، لكنه لا يستطيع التخلِّي عنه. هذا التوتر يمنح النصوص حرارة خاصة، ويجعل القارئ يشهد لحظة قلق إبداعي صادقة: شاعر يكتب لأنه لا يستطيع إلّا أن يكتب.
“ساعي بريد اللهفة” عنوان لا يصف كتابًا بقدر ما يعلن مشروعًا شعريًا: فالشاعر هو الساعي الذي يحمل رسائل الوجد والفقد والرجاء، يوزِّعها بلا ضمان لوصولها، لكنه لا يملك سوى أن يواصل السير في الدرب. الديوان بهذا المعنى إضافة نوعية إلى تجربة نمر سعدي، يكشف عن شاعرٍ يقيم في توازن دقيق بين انتمائه إلى ذاكرة الشعر العربي وفتنته بالحداثة ورؤاها، ويمنح القارئ فرصة الدخول إلى عالم يختلط فيه الاعتراف الشخصي بالنص الكوني، والجرح الفردي بجرح الجماعة.
ولعلَّ ما يجعل هذا الديوان قريبًا إلى القلب أنَّه لا يكتفي بإظهار مهارة الشاعر وثراء معجمه الشعري، بل يكشف أيضًا عن صدقٍ إنساني نادر، صدق يجعل القارئ يلمس أن وراء كل قصيدة شاعرًا لا يزال يؤمن بأن الشعر، رغم كل شيء، يستحق أن يُكتب.
تتميَّز المجموعة الشعرية بعدة خصائص وسمات فنية بارزة منها على سبيل المثال لا الحصر العمق الفلسفي حيث تتناول النصوص قضايا وجودية عميقة بصياغة شاعرية متقنة، وتظهر التجلِّيات الجماليَّة اللغويَّة عبر استخدام لغة شعريَّة راقية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، إضافةً إلى رهافة التراكيب وطريقة الإيحاء والإبداع في التصوير من خلال توظيف صور شعريَّة مبتكرة تثري التجربة.
يُعد هذا الإصدار إضافة قيِّمة للمكتبة العربية الشعرية، ويؤكد استمرارية التجربة الإبداعية للشاعر نمر سعدي في المشهد الثقافي العربي.
وكنموذج على الثراء الشعري للديوان نقتطف هذه القصيدة للدلالة على أجوائه:
اللهفةُ امرأةٌ تنادي في مزاميرِ الرياحِ عليكَ: عُدْ لي من أقاصي الأرضِ، كنْ شمسي وكنْ قمري وكنْ شجرَ الحديقةِ والقصيدةَ، كيْ أكونَ المرأةَ المرآةَ، أو ضوءَ الفراشةِ في الظلامِ، وكيْ أكونَ الزنبقَ العاري وبنتَ الياسمينِ الأبيضِ الرقراقِ، أختَ سفرجلاتِ الليلِ، بالوجدِ احترقتُ وبالحنينِ، سفينةً رمليَّةً وسليلةَ الماءِ الحزينِ وصوتِ موجِ البحرِ، نورسةَ الأغاني والسنينِ، اللهفةُ امرأةٌ تمرُّ على شفاهي نسمةً، تنهيدةً أو زفرةً ناريَّةً منقادةً بالحدسِ أو بالهمسِ حتى آخرِ الرعشاتِ في الدمِ والحرائقِ في العيونْ.
المتواجون الان
617 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع