الاسْتِقْلَالِيَّة- قصة قصيرة// مارتن كورش تمرس
- تم إنشاءه بتاريخ الأحد, 28 أيلول/سبتمبر 2025 10:41
- كتب بواسطة: مارتن كورش تمرس
- الزيارات: 252
مارتن كورش تمرس
الاسْتِقْلَالِيَّة- قصة قصيرة
مارتن كورش تمرس
محامي وأديب
كانَ الأُسْتَاذُ عِمادُ عُبُود شِهَاب العُبَيْدِيُّ، مُدَرِّسًا لِلُّغَةِ العَرَبِيَّةِ فِي ثَانَوِيَّةِ دَبَس المُخْتَلَطَةِ فِي مَدِينَةِ دَبَس بِمُحَافَظَةِ كَرْكُوكَ، فِي أَوَائِلِ سَبْعِينِيَّاتِ القَرْنِ المَاضِي. كَانَ يُعَلِّمُ تَلَامِيذَهُ كَيْفِيَّةَ كِتَابَةِ الكَلِمَاتِ وَإِعْرَابِهَا وَلَفْظِهَا وَالاشْتِقَاقِ مِنْهَا، وَكَيْفِيَّةَ تَكْوِينِ فِكْرَةٍ مِنْ أَجْلِ كِتَابَةِ مَوْضُوعٍ مَا فِي حِصَّةِ الإِنْشَاءِ مِنْ حِصَّةِ دَرْسِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ. رَأَى فِي بَعْضِ الطُّلَّابِ حُبَّ التَّعَلُّمِ؛ مَا جَعَلَهُ يَقْتَرِحُ عَلَيْهِمْ تَعْلِيمَهُمْ وَصَقْلَ مَوَاهِبِهِمْ فِي دَرْسٍ إِضَافِيٍّ يَبْدَأُ بَعْدَ انْتِهَاءِ سَاعَاتِ الدَّوَامِ الرَّسْمِيِّ لِلْمَدْرَسَةِ، فَلَاقَى اقْتِرَاحُهُ قَبُولًا مِنَ العَدِيدِ مِنْهُمْ. صَارَ يُعَلِّمُهُمْ عِلْمَ العَرُوضِ وَبُحُورَ الشِّعْرِ العَرَبِيِّ، حَتَّى أَصْبَحَ الوَاحِدُ مِنْهُمْ بَعْدَ عِدَّةِ أَسَابِيعَ يُنَظِّمُ قَصِيدَةً فِي الشِّعْرِ العَمُودِيِّ ذَاتَ وَزْنٍ وَقَافِيَةٍ. وَلَمَّا رَأَى فِي قَصَائِدِهِمْ بَدَايَةً صَحِيحَةً قَرَّرَ أَنْ يُقِيمَ لَهُمْ مَهْرَجَانًا شِعْرِيًّا رَائِعًا، فِيهِ نَالَتْ قَصَائِدُهُمُ الصَّغِيرَةُ التَّرْحِيبَ مِنَ المُدَرِّسِينَ وَزُمَلَائِهِمُ الطُّلَّابِ. أَخَذَتْ مَوَاهِبُهُمْ تَنْمُو وَتَتَّسِعُ، حَتَّى قَرَّرُوا إِصْدَارَ جَرِيدَةٍ أُسْبُوعِيَّةٍ تُكْتَبُ بِخَطِّ اليَدِ وَتُوَزَّعُ فِي المَدْرَسَةِ عَلَى الطُّلَّابِ تَحْتَ إِشْرَافِهِ. لَمْ يَمَلَّ وَلَمْ يَكِلَّ، بَلْ ظَلَّ يُعَلِّمُهُمْ وَيُنَقِّحُ مَا يُنَظِّمُونَ مِنْ قَصَائِدَ، وَمَا يَكْتُبُونَ مِنْ قِطَعٍ نَثْرِيَّةٍ. حَتَّى بَدَأَ بِتَعْلِيمِهِمْ دَرْسًا مُهِمًّا فِي الحَيَاةِ، أَلَا وَهُوَ اسْتِقْلَالِيَّةُ الشَّخْصِيَّةِ، حَيْثُ خَصَّصَ لَهُ الوَقْتَ الأَخِيرَ مِنْ حِصَّةِ الدَّرْسِ الإِضَافِيِّ. فِيهَا كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَيْفَ يَسْتَقِلُّ الوَاحِدُ مِنْهُمْ بِشَخْصِيَّتِهِ، وَهُوَ يَشْرَحُ لَهُمْ:
- أَرَى كَيْفَ تَنْمُو المَوْهِبَةُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، إِنَّهَا عَلامَةٌ تُبَشِّرُ بِالخَيْرِ وبِمُسْتَقْبَلٍ بَاهِرٍ، كَيْفَ لَا وَقَدْ أَصْبَحْتُمْ تَسِيرُونَ بِأَقْلَامِكُمْ عَلَى خُطَى الكُتَّابِ وَالشُّعَرَاءِ، لِذَلِكَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْتَقِلُّوا بِشَخْصِيَّاتِكُمْ لِكَيْ تَسْتَقِلَّ أَفْكَارُكُمْ، فَيَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ نَمَطٌ مُمَيَّزٌ فِي الكِتَابَةِ. حِينَئِذٍ سَتَرَى كَيْفَ تَنْجَحُ فِكْرَتُهُ الَّتِي بَدَأَ يُجَسِّدُهَا عَلَى الأَوْرَاقِ، وَهُوَ يَرَى قَبُولَهَا لَدَى القُرَّاءِ.
نَالَ كَلَامُهُ التَّرْحِيبَ مِنْ طُلَّابِهِ، بَلْ أَصْبَحُوا يُدْرِكُونَ أَنَّ اسْتِقْلَالِيَّةَ الشَّخْصِيَّةِ تَعْنِي اسْتِقْلَالَ الأَدَاءِ، وَلَا مَحَالَة سَتُوَاكِبُهَا الحِكْمَةُ وَرَجَاحَةُ الرَّأْيِ وَنَقَاوَةُ الأَفْكَارِ وَجِدِّيَّةُ الكِتَابَاتِ الَّتِي سَتَجْذِبُ القُرَّاءَ، الَّذِينَ بِيَدِ أَفْكَارِهِمْ مُهِمَّةُ تَمْيِيزِ الكُتَّابِ المَوْهُوبِينَ وَرَشْحُهُمْ مِنْ خِلَالِ كِتَابَاتِهِمْ لِيَكُونُوا قُدْوَةً حَسَنَةً. هَذِهِ كَانَتِ الخُطُوَاتُ الأُولَى فِي رُكُوبِ قَارِبِ الكِتَابَةِ وَالتَّأْلِيفِ، الَّذِي عَلَى مَتْنِهِ يَصِلُ الكَاتِبُ إِلَى مِيناءِ شَاطِئِ فِكْرِ القَارِئِ الَّذِي سَيَتَعَرَّفُ إِلَى رِسَالَتِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ لَهُ. إِنَّ الرَّبَّ يَمْنَحُ الكَاتِبَ المُلتَزِمَ قُدْرَةً عَلَى تَغْيِيرِ المُجْتَمَعِ بِقَلَمِهِ؛ وَمِثْلُ هَذَا الكَاتِبِ يَسْتَحِقُّ عَنْ جَدَارَةٍ أَنْ يَكُونَ عُضْوًا فَعَّالًا فِي السُّلْطَةِ الرَّابِعَةِ، بَلْ قَائِدًا اجْتِمَاعِيًّا! أَلا نَسْمَعُ بِالمُصْلِحِينَ الاجْتِمَاعِيِّينَ الَّذِينَ يَظْهَرُونَ بَيْنَ فَتْرَةٍ وَأُخْرَى فِي هَذَا المُجْتَمَعِ أَوْ ذَاكَ؟ كَانَ الأُسْتَاذُ عِمَادٌ يُوَزِّعُ اللَّبِنَاتِ الفِكْرِيَّةَ عَلَى التَّلَامِيذِ بِالتَّسَاوِي، وَيُرْشِدُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى كَيْفِيَّةِ بِنَاءِ مَوْهِبَتِهِ وَالاسْتِقْلَالِ بِآرَائِهِ. دَعُونَا مِنْ خِلَالِ هَذِهِ القِصَّةِ الْقَصِيرَة نَسْتَمِعْ بِأُذُنِ ذَاكِرَةِ الكَاتِبِ، الَّذِي كَانَ أَحَدَ أُولَئِكَ الطُّلَّابِ، وَهُوَ يُصْغِي إِلَى مُدَرِّسِهِ إِذْ يَقُولُ لَهُمْ:
- اُنْظُرُوا أَيُّهَا الطُّلَّابُ الأَعِزَّاءُ... يَا كُتَّابَ وَأُدَبَاءَ وَشُعَرَاءَ وَصُحَافِيِّي المُسْتَقْبَلِ، كَيْفَ تَرْتَقُونَ بِشَخْصِيَّاتِكُمْ دَرَجَ السُّلَّمِ إِلَى القِمَّةِ. أَدْعُوكُمْ أَنْ تَكُونُوا مُسْتَقِلِّينَ غَيْرَ تَابِعِينَ... مُميَّزِينَ غَيْرَ مُسَيَّرِينَ... مُسْتَقِيمِينَ غَيْرَ مُرَاوِغِينَ... نَاقِدِينَ غَيْرَ مَادِحِينَ... صَادِقِينَ غَيْرَ مُنَافِقِينَ... لِكَيْ تَكُونُوا مِنَ الآنَ فَصَاعِدًا قَادِرِينَ عَلَى حَمْلِ أَقْلَامِكُمْ. لُطْفًا اسْتَقِلُّوا بِنُفُوسِكُمْ وَأَفْكَارِكُمْ قَبْلَ أَقْلَامِكُمْ.
فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدَّرْسِ الإِضَافِيِّ، بَيْنَمَا كَانَ يَشْرَحُ عَنْ بُحُورِ الشِّعْرِ العَرَبِيِّ، جَاءَ أَحَدُ الطُّلَّابِ بِقَصِيدَةٍ غَيْرِ لَائِقَةٍ بأخلاق زملائه!!! جُنَّ جُنُونُ الأُسْتَاذِ، فَأَخَذَ ذَلِكَ الطَّالِبَ جَانِبًا بَعْدَ أَنْ صَرَفَ أَقْرَانَهُ، وَقَالَ لَهُ:
- كُنْتُ أَقْدِرُ أَنْ أُعَاقِبَكَ عَلَى مَرَأَى زُمَلَائِكَ، لَكِنِّي وَجَدْتُ أَنَّكَ لَسْتَ مُنَظِّمَ القَصِيدَةِ بَلْ نَاقِلَهَا.
اغْتَمَّ ذَلِكَ الطَّالِبُ، وَهُوَ مُطَأْطِئُ الرَّأْسِ خَجَلًا، فَمَا كَانَ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يُمَزِّقَ تِلْكَ الْقَصِيدَةَ، وَيَقُولَ بِصَوْتٍ مُتَرَدِّدٍ:
- أَعْتَذِرُ يَا أُسْتَاذُ.
لَمْ يَعْلَمِ الطُّلَّابُ مَا الَّذِي جَرَى بَيْنَ الأُسْتَاذِ وَزَمِيلِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ الأَوَّلَ قَدْ غَضِبَ مِنَ الثَّانِي لِأَمْرٍ لَمْ يَعْرِفُوا كُنْهَهُ، وَأَنَّهُ لَنْ يَعُودَ لِيُعَلِّمَهُمْ. وَلَكِنْ ظَنُّهُمْ لَمْ يَكُنْ فِي مَحَلِّهِ؛ فَعِنْدَمَا دَخَلَ المُدَرِّسُ فِي اليَوْمِ التَّالِي إِلَى غُرْفَةِ الصَّفِّ، نَادَى المُرَاقِبُ عَلَى مَسَامِعِ زُمَلَائِهِ:
- قِيَام.
بَدَأَ المُدَرِّسُ حِصَّةَ الدَّرْسِ الإِضَافِيِّ، وَقَالَ لِطُلَّابِهِ نَاصِحًا:
- كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مُعَرَّضٌ لِلْخَطَأِ، المُهِمُّ أَنْ نَتَعَلَّمَ دَرْسًا. فَدَعُونَا الآنَ نَعُودْ إِلَى الدَّرْسِ.
أَخَذَ الأُسْتَاذُ، عِمَادٌ يَشْرَحُ، بَيْنَمَا الطُّلَّابُ يُصْغُونَ بِشَغَفٍ وَيُدَوِّنُونَ فِي دَفَاتِرِهِمْ مَا يُلْقِيهِ عَلَى مَسَامِعِهِمْ.
مَضَتِ السُّنُونَ، وَحَصَلَ مُعْظَمُ أُولَئِكَ الطُّلَّابِ عَلَى مَقَاعِدَ مُخْتَلِفَةٍ فِي الجَامِعَاتِ العِرَاقِيَّةِ. تَقَاعَدَ الأُسْتَاذُ عَنِ التَّعْلِيمِ، وَعَمِلَ فِي صَحِيفَةٍ عِرَاقِيَّةٍ مَرْمُوقَةٍ، ثُمَّ فِي جَرِيدَةِ القَبَسِ الكُوَيْتِيَّةِ. وَبَعْدَ سَنَةِ ٢٠٠٣ لَجَأَ مَعَ زَوْجَتِهِ إِلَى مَمْلَكَةِ النَّرْوِيجِ.
وَفِي عَامِ ٢٠١٤، وَكَعادَتِهِ فِي كُلِّ صَبَاحٍ، وهو يفَتَحَ صُنْدُوقَ البَرِيدِ الخَاصَّ بِالشَّقَّةِ السَّكَنِيَّةِ الَّتِي يُقِيمُ فِيهَا، فَتَفَاجَأَ عِنْدَمَا وَجَدَ ظَرْفًا سَمِيكًا عَلَيْهِ اسْمُ المُرْسِلِ! إِنَّهُ مَارْتِن كُورْش تَمْرِس لُولُو؛ كَاتِبُ هَذِه القصة؛ أَحَدُ طُلَّابِهِ فِي الدَّرْسِ الإِضَافِيِّ أَوَائِلَ سَبْعِينِيَّاتِ القَرْنِ المَاضِي. أَسْرَعَ وَفَتَحَ الظَّرْفَ، فَوَجَدَ أَنَّهُ يَحْتَوِي عَلَى مَجْمُوعَةٍ قَصَصِيَّةٍ مِنْ تَأْلِيفِ ذَلِكَ الطَّالِبِ، يُرِيدُ مِنْ أُسْتَاذِهِ أَنْ يُنَقِّحَهَا لَهُ. ثُمَّ كَانَتْ فَرَحَتُهُ أَكْبَرَ عِنْدَمَا قَرَاَ علَى الْغِلافِ الدَّاخِلي كَلِمَة إِهْدَاءَ مِن ذلكَ الطَّالب لِمَجْمُوعَتِهِ القَصَصِيَّةِ إليه وَهوَ يُعَبِّرُ عَنْ شُكْرِهِ وَامْتِنَانِهِ لِلْمُدَرِّسِ الذِي صَقلَ فِيهِ مَعَ أقرانِه الْخطواتِ الأولَى في مِشْوارِ الْكِتَابَةِ.
ثُمَّ كَانَتْ فَرْحَته أَكْبَر وَهوَ يَقْرأُ على صَفحاتِ التَّواصل الاجْتِماعِي قَصَائِدَ لِمعَظمِ طُلابِ وطَالباتِ حصة الدرس الإضافي، وفِي مُقدمتهم الشَّاعر محمد طه ياسين، وقطعًا نثرية لصالح علي شاكر، وفيصل خورشيد، ومريم أحمد مرعي، وغيرهم.
إِنَّهَا بِدَايَةُ الْعَامِ 2024، حَيْثُ نُشَاهِدُ الْأُسْتَاذَ عِمَادَ عَبُودَ شِهَابِ الْعَبِيدِيِّ، مِنْهَمِكًا فِي بِناءِ مَنْزِلٍ لَهُ فِي مَدِينَةِ أَرْبِئِيلُو، الَّتِي يَرُومُ الْاسْتِقْرَارَ فِيهَا مَعَ زَوْجَتِهِ بَعْدَ أَنْ تَنْقُلَ عِدَّةَ سَنَوَاتٍ بَيْنَ الْعَاصِمَتَيْنِ أُوسلُو وَأَنْقَرَةَ.
المحامي والأديب
مارتن كورش تمرس لولو
ملاحظة: تنشر خصيصًا في موقع تللسقف.
المتواجون الان
582 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع