اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

• الشاعر رشدي العامل في الذكرى العشرين لرحيله

رحيم الحلي

 

 الشاعر رشدي العامل في الذكرى العشرين لرحيله

 

في عام 1990 كنت مع صديقي الحلي الاستاذ حفظي شهيد ، متجهين صوب بيته او خرابته في سفح قاسيون ، ونحن نصعد بين الازقة المتعرجة الحادة ، اخبرني بوفاة الشاعر رشدي العامل ، تسمرت في مكاني واخذت شهيقاً ، كانت مصيبة حقيقية وخبر مؤلم في تلك الفترة الصعبة من حياتنا نحن المهاجرين البعيدين عن وطننا الملبدة سمائه بالمصائب ، فتتسرب لنا بين حين واخر اخبارمؤلمة برحيل احبتنا في السجون وساحات الموت المجاني ، ونرى الطاغية يزداد غلواً وعنجهية في ظل اصطفاف دولي مؤيد له ،  فنلحظ ان قبر الديكتاتورية لم يحفر بعد ، فجاءت وفاة شاعرنا رشدي العامل بمثابة جرعة مرة يطفح بها كأس مراراتنا الممتليء ولتزيد من مساحة احباطاتنا .

من مدينته الغافية على الفرات ببيوتها المسورة وشطآنها المرصوفة بحبات الرمل ، بنواعيرها الحزينة واشجار الصفصاف والتين اللائذة بالصمت وهي تدفع ريح الصحراء ، حياة موشحة بالاحزان لولد شقي اراد ان يختصر الزمن والمسافات ، عندما عرف للمرة الاولى ماذا يعني الظلم وهو يسمع خبراعدام ثلاثة رجال وطنيين في بغداد بقرار ملكي قاسٍ ، صار يرى في احلامه اجسادهم المعلقة بالحبال ، فتذكر مشاركته وهو صبي في مظاهرة ضد الاستعمار وضد معاهداته ، وتذكر قصيدته البسيطة التي القاها في المقبرة التي دفن فيها بعض الشهداء ، في تلك السنوات سمع بالشيوعية فهؤلاء المشنوقون هم شيوعيون ، بدأت قراءاته تتعمق ومن المكتبة المتواضعة في مدينته ، ابتدأ ركضته المبكرة في البحث المعرفي ، انه سعي مضني للوصول الى فهم العالم وكينونته وصراعاته وثوراته ، والبحث عن اجوبة لاسئلة ذكية تسبق عمر الصبي الجميل المدلل في اسرته المكافحة ، فقد عاملته الاسرة بدلال  واضح ، وارادوا ان يصنعوا منه شيئاً مميزاً ، فقد توقعوا له مستقبلاً باهراً ، فقد زرع والده فيه حب الوطن والشعر والتاريخ ، وبدأت تتشكل افكاره وتنمو بسرعة مثل الشجيرات الغافية على نهر الفرات فقد بدأت الماركسية تغزو ذهن ذلك الفتى الصغير ، واستطاعت مخيلته الواسعة ان تربط جسراً بين قراءاته الاولى من الكتب التي توفرت له في اسرته وبين كراسات الحزب وادبياته ، وابتدأت علاقته بالحزب الشيوعي وهو الذي كلف للذهاب الى بغداد لربط اولى خلايا الحزب في عانة مع المركز ، ليعود بمظروف فيه منشورات حزبية وكراريس صغيرة  ، توسعت مداركه وراح يفكر بالبؤس المنتشر في وطننا بالمظالم والفقر والاستغلال ثم الاستعمار الذي يهيمن على مقدرات بلدنا المقيد بالمعاهدات والاحلاف الجائرة .

بداياته الاولى في عالم النشر ، كانت مع مجلة العراق التي يصدرها رزوق غنام وابتدأت خطواته الاولى في شارع المتنبي وهو يمد الخطى صوب عالم الكتابة والنشر ثم اصدر مجموعته الشعرية الاولى عام 1951بعنوان " همسات عشتاروت" بمساعدة صديقه فيصل الياسري .

 تعرف على الشاعر عبد الوهاب البياتي عندما كان طالباً في متوسطة الرمادي ، وترسخت في ذاكرته تلك الابيات التي خطها بالطباشير على اللوح المدرسي :

اجمل ايام الهوى افلتت

منا، واخشى انها لن تعودْ

كانت سراباً عابراً وانتهى

كأنها حلم عزيز الوجود

في سنة العالم من بدئه

ان يسلم الشوك وتفنى الورود

جنة اهل الحب، في سحرها،

كانت وعوداً، وستبقى وعود

في مدينة الرمادي بدأت تتعمق قراءاته من خلال المكتبة العامة حيث كان الموظف المسؤول عن المكتبة هو احد اصدقاء خاله الكبير السيد ثابت الراوي ، الذي يسر له فرصة المطالعة في المكتبة وحرية البحث بين رفوف الكتب ، اتاحت له قراءة اولية لمؤلفات طه حسين والعقاد والمازني والرافعي وشوقي والرصافي وعشرات غيرهم ، يتحدث رشدي العامل عن تلك الفترة من حياته في مذكراته التي نشرتها صحيفة المدى بعنوان طائر الفرات في احدى عشر حلقة :

لقد كانت فترة اكثر من خصبة ضمن حدود الحياة القاحلة لبلدة عراقية مهملة ، في اواخر العقد الرابع من القرن العشرين ، وبالنسبة لصبي في نهاية دراسته الابتدائية وبداية لدراسة المتوسطة .

 في مدينته عانة تعرف على الاستاذ عزيز شريف مؤسس حزب الشعب وشقيقه الشهيد عبد الرحيم شريف وعلى العديد من المعلمين الذين جاءوا للتدريس فيها او المناضلين الشيوعيين المنفيين  اليها ، منهم المناضل خلوق امين زكي (سكرتير أول تنظيم طلابي في في العراق جرى انتخاب قيادته في مؤتمر السباع بعد وثبة كانون 1948 الملهمة ، باسم اتحاد الطلبة العام والاخران هما: محمد صالح الحيدري ، ومحمد رسول الحيدري . الذين نفتهم السلطات الملكية الى هذه المدينة الفراتية البعيدة والتي استعملت كمنفى لبعض الشيوعين الذين قضوا محكومياتهم في سجن الكوت او في نكرة السلمان .

تعرض للفصل اكثر من مرة ، ففي عام 1954 تم فصله من كلية الحقوق ، وفي عام 1958 عاد من منفاه في القاهرة وعمل في اول جريدة شيوعية علنية وهي اتحاد الشعب ، حيث عمل محرراًً في الشؤون الثقافية ، وبعد انقلاب 8 شباط 1963  تعرض للاعتقال والسجن ، ثم سُجِنَ  في قصر النهاية بعد انقلاب 17 تموز1968 .

 وفي عام 1973 عمل محرراً بارزاً في الشؤون الثقافية والسياسية في جريدة  طريق الشعب ، استمر في عمله حتى العدد الاخير ،  قررالبقاء في البلاد بعد الحملة الدموية ضد الشيوعيين اواخر السبعينات مما جعله يدفع ثمن كبير بين مطاردات واعتقالات واعتكاف ، وظل قوياً امام كل الإغراءات التي مارستها السلطة الصدامية مع النخبة المثقفة ، ليرحل في 19 أيلول 1990 وتحت وسادته نسخة من آخر أعداد جريدة"طريق الشعب" السرية .

واجه العديد من المحن ليس اقلها محنته في ضياع بيته وابتعاد زوجته وبقاءه وحيداً مع خمرته وذكرياته الطويلة ، حزنه على رفاقه الغائبين المتوزعين بين السجون و المنافي ، كيف يستطيع صبراً حين يرى الطاغية ضاحكاً وهو يحرق البلاد ويزجها في حروب وحماقات عبثية  ، او حين يرى قافلة الموت الممتدة في كل بقعة من الوطن ،  والحزن وقد حط رحله في كل البيوت  ، كيف يتحمل رؤية السياج العالي الذي طوق فيه الديكتاتور الوطن والثقافة فتعرض كل شيء للموت او التزييف ، ماذا عساه ان يفعل في مثل تلك الظروف ، ظل معتكفاً يجتر ذكرياته يندب وطناً تلتهمه النيران ، وكأن الموت بلسمه الاخير رحل المغني وهو ينشد :

أمسّ كنا أربعة

شاعرّ ظلَ طريقه ُ

كاتبّ يبحث في الظلمة

عن نور الحقيقة

ثالثّ يرسمُ بين الشوك والصبار أزهار حديقة

راهبّ يستلُ أناتً من القيثار

وسط الزوبعة

أمس كنا أربعة

هكذا كنا ،

ولكنا افترقنا،

عند نصف الليل

حدقنا طويلاً وضحكنا

عندما قال لنا الراهب،

اِنا اغنياء ،

خبزنا الصبر الآلهي ،

ومأوانا العراء ،

لم نخن شيئاً ولم نكذب ،

ولم نلبس أثواب الرياء ،

وأفترقنا..

نغرفُ الضحك وكنا سعداء

في مراسلاته ومكالماته الهاتفية مع محمد سعيد الصكار المقيم في باريس ، يبحث الشاعر رشدي العامل عن حبل النجاة ليخرج من حصاره ، طلب من الصكار ان يرسل له دعوة زيارة ، وبعد الحاح شاعرنا المحاصر بادره الصكار يسأله عن رقم جوازه ! ليجيب بمرارة وخيبة ان جوازه ساقط  سيسعى للحصول على جواز جديد ، ولكن هل سيعطي الجلاد جوازاً لشاعر شيوعي معروف ؟ احلامه هائمة دون جدوى ، اه فلقد مات المغني انهم يهيلون التراب في قبره الثري والشمس مالت للغروب وقبل ان يوارى التراب ، قرأ الدكتور علي جواد الطاهر كلمة رثاء أخيرة قائلاً:

ماتَ صوتُ القادمين الى العراق ..

وطني مات المغني...

فهل سنعيدُ حكايات السنين؟؟

أقول لك ايها الراحل ، صديقنا الجميل رشدي :

نحنُ نعيدُ حكايات السنين..

وطني لن يموتَ المغني...........

الشاعر رشدي العامل يمتزج بجيلين شعريين هما جيل الخمسينات وجيل الستينات فهو يعبر كل المساحة الممتدة بين هذين الجيلين ، هو شاعرُ مجيدُ ، رغم انشغاله بالعمل السياسي الذي اخذ الكثير من وقت شاعرنا وتفكيره ، ورغم سنوات السجن والتشرد لكنه استطاع ان يحتفظ بمقعده في الصف الامامي لشعرائنا المبدعين ، قصائده حافظت على علاقة وثيقة بالحياة والناس لم تكن قصائده بطرة او معجونة بزبد السلاطين او المترفين ولم تكن مفرداته متطايرة بمزاج عبثي ، كان طعم قصائده حاداً في افواه الحاكمين الظالمين ، وحلواً عذباً عند العاشقين ، ظلت قصائدة شديدة الحساسية كصانعها تنضح حزناً والماً ، متحدية وصلبة لكنها لينة وطرية شعرياً بمفرداتها الجذلة المعجونة بماء المحبة ، نفخ فيها من روحه ، فاعطاها ديمومة البقاء ، وطعم الحياة المنقوع باوجاع الفقراء والمظلومين ، ومن قصائده البارزة التي كتبها تشرين الثاني 1989، والقاها دون وجل وفي جو مشحون بالرعب ، قصيدة  تلمز بوضوح للديكتاتور ممثلاً بشخصية يزيد  ، اما الحسين فهو في القصيدة رمزُ لقافلة الشهداء الممتدة عبر الزمان والمكان في وطن القهر والسبي الازلي ، في بلد الثورات والقتل والسجون .

الحسين يكتب قصيدته الاخيرة

ها أنا الآن نصفان

نصفٌ يعانق برد الثرى

ونصفٌ يرف على شرفاتِ الرماحْ

ها أنا والرياحْ

جسدي تحت لحدي ورأسي جناحْ

ها أنا بين رمل الصحارى

ولون السماءْ

ها أنا في العراءْ

انكرتني ضفافُ الفرات

فلم ألقَ قطرة ماءْ

في رمال الجزيرةِ ضيعت إسمي

وغادرني الانبياءْ   

فاقطعْ الآن من جسدي ما تشاءْ

سيفل الحديد الوريدْ

جرّب الآن في جسدي ما تريدْ

ذاك رأسي على طبقٍ باردٍ يا يزيدْ

بعد شهر من اجتياح الكويت توقف قلب الشاعر الذي ظل غريبا في وطنه ، مات وتحت وسادته نسخة من إحدى صحف المعارضة لصوت الجلاد ، شاعرنا الراحل رشدي العامل حين نزور ضريحك سنفعل ماطلبته من احبتك ، حين قلت : اطرقوا ثلاث طرقات على قبري اذا سقط الطاغية حتى اعلم ان ليل العراق قد انتهى" ، هكذا كان العراق ، لا فرق بين نهاره وليله ، كان أنشودة يترنمها المناضلون بعذاباتهم ، حتى يجيء موسم البوح والغناء سندع شاعرنا مستريحاً في نومته رغم رغبتنا في ان نسمع  صوته والقاؤه الشجي ، كلماته ونصوصه الباذخة ، اين ذلك الخزين المعرفي هل حفظته كتبنا ؟ ام اين مخزون تجاربه النضالية ؟ اين عطر الصبا وذكريات مدينته الجميلة  ؟ اين تلك القراءات الشعرية وتلك الايام الشقية هل سيتذكرها المحبون ؟ ام ان ضجيج البلاء قد دفع المغني الى جب النسيان .

وطني .. قـصـيـدة لم تنشر من قبل لـ رشدي العامل قبل سقوط الديكتاتورية

وقد مات المغني

هل نستعيد حكاية السنوات عاريةٍ

بلا وترٍ يرافقها

ولا صوتٍ يغني

هل تعبر الايام ارصفة الشوارع

أوجه الاطفال ، اثقال الرجال

وكوةً في باب سجني

منها أرى أمي واصحابي

ومنها يدفع السجان لي خبزي وكفاف اليوم

منها ترحل السنوات عني

وتعود مثقلة السلال

أعود طفلاً ، اسرق التفاح من بستان جارتنا

وامنحه الصبايا

طفلاً بريئاً الثغ الراءات ، تفتنه الحكايا

والنهر والناعور ، والبلم الفراتي الجميل

تلهو به الامواج عابثة

وجبهته تميل

جذلى الى ضفةٍ تلألأ كالمرايا

والارض اغنية ، وعاشقة وبيت

والسفح مرتكن على الربوات

تحضنه الورود

والارض جذلى ، والسماء قريبة منا

وضحكتها وعود

والارض جارية ولود

 

 

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.